وسائل اكتساب الأخلاق (3)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فإن من أهم ما يسعى المسلم لتحقيقه الأخلاق الإسلامية، وهو من أهم ما جاء الإسلام لتشريعه، بل هو من التشريعات التي اتفقت عليها جميع الرسالات السماوية، لذا فإن الأخلاق لا تُنسخ في الشرائع السماوية، وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم رسالته في الأخلاق، فقال: (إنما بُعثت لأُتمم صالح الأخلاق)؛ رواه البيهقي، وقال شوقي:
وإنّما الاُمم الأخلاق ما بقيتْ *** فإن همُ ذهبَتْ أخلاقهم ذهبوا
وقال:
إنَّما الأُمَمُ الأخلاقُ ما بَقِيَتْ *** فإنْ تَوَلَّتْ مَضَوا في إثرِها قُدُما
وقال:
كذا الناسُ بالأخلاقِ يبقى صَلاحُهم *** ويَذَهبُ عنهم أمرُهم حينَ تذهبُ
وقال:
وَإذا اُصِيبَ القَوْمُ في أخلاقِهِمْ *** فأقِمْ عَلَيْهِمْ مَأْتَمًا وَعَوِيلا
وقد ذكرنا أن من أهم ما يحقِّق هذه الأخلاق، ويبنيها العبادات التي شرعها الله تعالى، وليست العبادات في الإسلام وحدها التي تربي المسلم على الأخلاق، بل التوحيد قبلها يربِّي على الأخلاق ووسائل أخرى كذلك نتعرَّض لها في هذه الخُطبة، منها القدوة: والقدوة العملية الماثلة أمام الإنسان تُعين المسلم على الالتزام بالواجبات، وترك المنهيات، فأنت أيها المسلم لست أول من يفعل هذه الأخلاق، فقد سبقك أناس التزموا بالأخلاق، وبيَّنوا لك أن الوصول إلى الكمال ممكن، وأن الموضوع سهل وميسَّر لمن يسَّره الله عليه، وأولهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم السلام جميعًا، فقد مثلوا الأخلاق خير تمثيل، في الصدق والصبر والتواضع والرحمة والأمانة والعدل، وجاء بعدهم أقوام من الصالحين منهم من قضى نَحْبَه، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلًا، وصلوا إلى مراتب قريبة من النبوة، إلا أنهم لا يوحى إليهم، أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم، فقال: (اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي مِنْ أَصْحَابِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ، وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ مَسْعُودٍ)؛ رواه الترمذي وحسَّنه.
لقد كان بعض الصحابة رضي الله عنهم من حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقتدون به في غير العبادات، فمنهم من يمشي في المكان الذي مشى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يحرص على أكل الطعام الذي كان يحب أكله رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة في موافقته في محابِّه، ولا شك أن كمال الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم من كمال محبته، فكلما قوِيت المحبة قوِي الاقتداء، وكلما قويت محبة الصحابة قوي الاقتداء بهم.
ولكن ما رأيكم أن نرتقي درجة، لماذا نكون من المقتدين فقط، لماذا لا نكون من المقتدين والقدوات المقتدى بهم؟ وهل هذا ممكن؟ نعم، بشيء من المجاهدة والاستعانة بالله، قال سبحانه: ﴿ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74]؛ أي: قدوة يُقتدى بنا، فلنشعر أنفسنا نفسيًّا بأن كل فعل نفعله، فهناك من يقلِّدنا فيه من أهلنا وأبنائنا، وهل تريد أن يكون أبناؤك إلا خير ذريَّة؟ والسبيل لذلك أن تُعينهم بنفسك ولفظك وخلقك وتطبيقك، ولا يشترط أن تكون قدوة في كل شيء، بل ما استطعت عليه.
الوسيلة الثانية التي نكتسب بها الأخلاق هي النصيحة والوعظ، وكثيرًا ما يلتزم الواحد منا بالأخلاق الحسنة، أو يترك الأخلاق السيئة نتيجة لنصيحة أو موعظة من واعظ أو أب أو أم، أو أخ أو معلم أو غيرهم، لكن النصيحة لا تؤتي أكلها إلا إذا توفَّر فيها عوامل النصح الناجح، وهي: الأسلوب الحسن، والتحبب للمنصوح، والاختصار، وتخير الوقت المناسب، والانفراد، وحب الخير له، وصدق النصح، وأفضل الموعظة والنصيحة موعظة القرآن الكريم، فإن القرآن موعظة: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ﴾ [يونس: 57]، فالقرآن الكريم يستخدم أسلوب الموعظة والنصيحة للمؤمنين، فيوجِّه لهم الأوامر والنواهي: (يا أيها الذين آمنوا)، ويضرب القرآن الكريم الأمثال بنصائح السابقين؛ كنصيحة إبراهيم عليه السلام لأبيه، ونصيحة لقمان لابنه، والنبي صلى الله عليه وسلم يستخدم الأسلوبين عامًّا وخاصًّا، ومن الموعظة العامة قول العرباض رضي الله عنه: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون؛ رواه أبوداود والترمذي وصححه.
ومن الموعظة الخاصة نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب بالتوحيد، يجب أن نقوم بواجب النصح لأبنائنا وبناتنا وزوجاتنا، وأهلنا ومعارفنا بالأسلوب الحسن المحبب الرفيق، وما كان الرفق في شيء إلا زانه، والمهم ألا يشعر الناصح أنه أفضل من المنصوح، فلا دخل للخيرية في ذلك، فربَّ منصوح هو خيرٌ عند الله من الناصح، لكن الناصح أكثر منه علمًا واطلاعًا، أو أفضل منه في هذه الجزئية المنصوح بها دون غيرها، أو أن المنصوح فعل ذلك الفعل معذورًا والناصح لا يعلم.
لقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المؤمن مرآة أخيه المؤمن، فالقصد من النصح تحسين صورة المؤمن كما يرى الإنسان نفسه في المرآة، فيجمِّل صورته، وليس القصد من النصح الفضيحة أو التفضل والتعالي، لذا فإن النصيحة إذا كانت خالصة صادقة يجب على المنصوح أن يتقبلها، وكان عمر رضي الله عنه يقول: رحم الله امرأً أهدي إليَّ عيوبي، فاعتبر مَن يدلُّه على عيوبه ليتخلص منها مهديًا له هدية، والهدية يثاب عليها.
وهناك أناس يتبرمون من النصح، وهذا خطأ؛ لأنك لست معصومًا، ولأن التقصير من طبع الإنسان وفطرته، ولأن الناصح إن كان صادقًا فهو يريد الخير لك، ولأن النقد البناء مقبول، حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم الموحى إليه من الله يتقبل نقد الآخرين إن كان في محلِّه، وكذلك خلفاؤه رضي الله عنهم، وكان الإمام أحمد رحمه الله على جلالته وسعة علمه يجلس إلى بعض الوعاظ يستمع لا ليزداد علمًا، ولكن ليرقِّق قلبه.
الخطبة الثانية
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة)، أما بعد:
فمن وسائل التربية الثواب والعقاب، والقرآن الكريم مليء ببيان الثواب على الصالحات والعقاب على السيئات، وهذا لا شك يورث المسلم رغبة في الخير ورهبة من الشر، فكم من خلق سيئ تركناه خوفًا من عقابه يوم القيامة، أو خوفًا من الفضيحة في الدنيا، وكم من خلق حسن فعلناه وصبرنا عليه أملًا في النجاة به يوم القيامة.
لقد شرع الله تعالى الحدود الشرعية؛ لتنهى عن الفواحش من الزنا والخمر والسحر، ويستقيم المجتمع على الخلق الحسن بعدها، ولا يعلم من خلق إلا الله تعالى وهو اللطيف الخبير، فلا ينبغي أن نتبرم من الحدود الشرعية والعقوبات؛ لأنها تقوِّم العقيدة والخلق والدين، لقد كان الصحابي يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيُصرُّ على أن يعاقب ليتطهَّر، كما فعل ماعز الأسلمي والغامدية رضي الله عنهما، كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنهما وهما مُصرَّان على العقوبة، إنها النفس التي تعلم أن العقوبة لم يشرعها الله انتقامًا، ولكن تقويمًا.
لا مانع أن نعاقب أبناءنا وبناتنا بعقوبات معنوية تهدف إلى التقويم، والثواب يجب أن يسبق العقاب؛ لأن النفس مفطورة على حب المكافأة على العمل الصواب.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|