أساليب المشركين في محاربة الدعوة (6): إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نحمدك ربنا على ما أنعمت به علينا من نِعَمِك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلتَ إلينا أفضلَ رسلك، وأنزلت علينا خير كتبك، وشرعت لنا أفضل شرائع دينك، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيتَ، ولك الحمد بعد الرضا؛ أما بعد أيها الإخوة المؤمنون:
فقد تحدثنا في آخر خطبة عن أسلوب من أساليب المشركين في الصد عن الدعوة؛ وهو: طلب المعجزات من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقالوا كما أخبر الله عنهم: ﴿ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء: 90 - 93]، وطلبوا انشقاقًا للقمر، فتحقق ذلك، ومع ذلك رفضوا الإيمان؛ قال تعالى: ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ﴾ [القمر: 1 - 5]، وحديثنا في هذه الخطبة[1]عن أسلوب جديد من تلكم الأساليب.
عباد الله:من الأساليب الأخرى للمشركين في محاربة الدعوة:
الأسلوب الحادي عشر: إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم:
لمَّا لم تثمر كل الأساليب السابقة في صدِّ الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن دينهم، لجأت قريش إلى أسلوب الاعتداء الجسدي على النبي صلى الله عليه وسلم، وصور ذلك كثيرة أكتفي بذكر ما يلي:
الصورة الأولى: محاولة الوطء على الرقبة أو تعفير الوجه بالتراب: روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((قال أبو جهل: هل يعفِّر محمد وجهه بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيتُه يفعل ذلك لأطَأَنَّ على رقبته، أو لأعفرنَّ وجهه في التراب، قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي زعم لِيَطَأَ على رقبته، قال: فما فجِئَهم منه إلا وهو ينكُص على عقبيه ويتقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لَخندقًا من نار وهولًا وأجنحةً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا، قال: فأنزل الله عز وجل لا ندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ [العلق: 7 - 13]؛ يعني: أبا جهل؛ ﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى * كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ [العلق: 14 - 19]))[2].
الصورة الثانية: الخنق: روى البخاري بسنده إلى عروة بن الزبير قال: سألت عبدالله بن عمرو عن أشدِّ ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((رأيت عقبة بن أبي مُعَيْط جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه، فخنقه به خنقًا شديدًا، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه فقال: ﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [غافر: 28]))[3].
الصورة الثالثة: وضع سَلَى الجزور على ظهره: روى البخاري من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((بينما النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلى جزور[4]بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم، فجاء به، فنظر حتى سجد النبي صلى الله عليه وسلم، وضعه على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر لا أغني شيئًا لو كان لي منعة، قال: فجعلوا يضحكون، ويُحيل بعضهم على بعض، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه، حتى جاءته فاطمة فطرحت عن ظهره، فرفع رأسه، ثم قال: اللهم عليك بقريش ثلاث مرات، فشقَّ عليهم إذ دعا عليهم، قال: وكانوا يَرَون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة، ثم سمَّى: اللهم عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعدَّ السابع فلم يحفظ، قال: فوالذي نفسي بيده، لقد رأيت الذين عدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى، في القَليب؛ قليب بدر))[5][6].
الصورة الرابعة: يُدبِّرون سَجن النبي صلى الله عليه وسلم أو قتله أو نفيه خارج مكة: قال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30]؛ ﴿ لِيُثْبِتُوكَ ﴾ ليحبسوك ويسجنوك ويوثقوك، ﴿ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ﴾؛ قال الضحاك: "يصنعون ويصنع الله، والمكر التدبير، وهو من الله التدبير بالحق، وقيل: يجازيهم جزاء المكر، ﴿ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30]، فالمكر منهم أقبح شيء، ومن الله أفضل شيء؛ لأنه مجازاة لهم بحسب صنيعهم".
فاللهم إنا نعوذ بك من سبيل المشركين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله على عبده المصطفى وآله وصحبه ومن اقتفى؛ أما بعد عباد الله:
فقد رأينا في الخطبة الأولى صورًا من إيذاء المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم، فما هي الدروس والعبر المستفادة؟ أكتفي بدرسين اثنين:
الدرس الأول: أن الدنيا دار ابتلاء وامتحان واختبار: الإنسان يُبتلَى بقدر دينه وإيمانه، في نفسه، وفي بدنه، وفي أبنائه، وفي ماله... عن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: ((قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فيُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رِقَّةً ابتُلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة))[7] ، وكل المصائب تهون ما لم يبتلَ الإنسان في دينه، فالكل يعوضه الله إلا مصيبة التفريط في الدين والموت على ذلك، نسأل الله السلامة والعافية في ديننا.
الدرس الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قدوة للدعاة إلى الله في كل زمان ومكان: الدعاة إلى الله قد يُؤذَون في أجسادهم بالتعذيب، أو في حريتهم بالسجن، وما إلى ذلك، وعليهم الصبر حتى يقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا؛ قال الله تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [الأحقاف: 35]، وقال سبحانه: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
فاللهم ارزقنا الصبر على البلاء، ونعوذ بك من الفتنة في الدين، آمين.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|