أوروبا تراهن على إسهام الهندسة المالية في التحول الأخضر
يراهن الاتحاد الأوروبي على أن شيئا من هندسة مالية سيساعد على جذب استثمارات خضراء بتريليونات الدولارات تشتد الحاجة إليها، فضلا عن حماية المستهلكين من ارتفاع الأسعار الذي عصف بالمنطقة منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية.
إنها فكرة رائعة لا تعيبها سوى إشكالية واحدة: المشتقات المالية المعنية وفق تخطيطها الحالي ستسيء توجيه تلك الاستثمارات، ما سيجعل الأسعار أكثر تقلبا مما هي عليه.
ووفقا للهيئة التحريرية في "رأي بلومبرغ"، ستحتاج أوروبا إلى كثير من مزارع الرياح وألواح الطاقة الشمسية الجديدة، وغيرها من مصادر الطاقة النظيفة، لتبلغ هدف الحياد الكربوني بحلول 2050. في الوقت الحالي، غالبا ما تكون مثل هذه المشاريع مربحة من دون دعم حكومي.
غير أن الاستثمارات المطلوبة لن تأتي من تلقاء نفسها، إذ عادة ما يتطلب الأمر أن يستثمر منتجو الطاقة المتجددة مبالغ ضخمة مقدما، ما يعني اقتراض أموال وسداد مدفوعات ديون منتظمة قد يصعب إيفاءها اعتمادا على إيرادات شديدة التقلب.
لذلك، لن يمول المقرضون من القطاع الخاص الاستثمارات الخضراء في غياب وسيلة موثوقة للتحوط من مخاطر التخلف عن السداد، وهو ما لم توفره الأسواق المالية بعد.
عقود الفروقات
لمعالجة هذه المشكلة، باتت الحكومات تفضل مشتقا من عقود الفرق، هو عقد ضامن للفروقات لصالح طرفيه. ووفقا لهذا النمط من العقود يحدد لكل مشروع سعر المنتج المستهدف في مزاد تنافسي، حيث تعوض الحكومة الفارق لدى انخفاض أسعار السوق دون المستهدف، فيما يدفع المنتجون الفائض للحكومة عند ارتفاعها.
أبرمت مثل هذه الصفقات لإنتاج ما لا يقل عن 40 غيغاواط من الطاقة المتجددة ابتداء من 2022، وفقا لـ"أبحاث بلومبرغ لتمويل الطاقة المتجددة". وكان هذا زيادة بنحو 8 % في إجمالي المشاريع الخضراء القائمة في الاتحاد الأوروبي، ارتفاعا من لا نمو في 2016.
إذا كان الأمر متروكا لإرادة الاتحاد الأوروبي، ستنتشر مثل هذه العقود قريبا. فهو يفرض اعتماد هذه العقود أو ما يوازيها في غضون عدة أعوام في جميع صفقات الطاقة المتجددة الحكومية الجديدة، وذلك في إطار إصلاح أوسع نطاقا لسوق الكهرباء.
قد تكون تلك خطوة مفيدة، حيث ستسمح العقود للاستثمارات في قطاع الطاقة المتجددة بجذب تمويلات بشروط مواتية نسبيا، كونها تضمن دخلا ثابتا.
تعمل تلك العقود أيضا على توليد الأموال التي تستطيع الحكومات استخدامها لتخفيف وطأة الغلاء على الفقراء خلال فترات ارتفاع أسعار الكهرباء، وهي ميزة من شأنها أن تحمي المشاريع المعنية من "ضرائب غير متوقعة" قد تفضي إلى مصادرتها.
معايير موضوعية
مع ذلك، يشوب عقود الفرق عيب خطر. عادة ما تحتسب تلك العقود المدفوعات على أساس كمية الكهرباء المقدمة فعليا، وهو متغير يمكن للمنتجين التحكم به. بالتالي، يؤدي توليد مزيد من الكهرباء لدى انخفاض الأسعار، أو تقليص الإنتاج عند ارتفاعها، إلى تعظيم صافي ما تدفعه الحكومة.
يشجع ذلك الممارسات الجانحة على اختلاف أنواعها، مثل جدولة الصيانة حين ارتفاع الطلب أو تجنب الاستثمار في توربينات الرياح منخفضة السرعة والألواح الشمسية التي يمكنها تتبع أشعة الشمس وإنتاج الطاقة حينما تتوقف المصادر الأخرى عن ذلك.
في إحدى الحالات المتطرفة، أوقفت شركة في بريطانيا تشغيل مولد يعمل بالوقود الحيوي وسط ارتفاع الأسعار الاستثنائي إبان أزمة الطاقة في 2022، فوفرت مئات ملايين الجنيهات. وكلما زادت القدرة الاستيعابية التي تغطيها هذه العقود، ارتفعت احتمالات حدوث الفوضى.
حل هذه المشكلة هو احتساب المدفوعات على أساس الكميات غير الخاضعة لسيطرة أي من طرفي العقد، وهو ما توصلت إليه الأسواق المالية الأخرى منذ فترة.
لقد بين خبراء كيف يمكن تطبيق هذه المعايير الموضوعية على عقود الطاقة المتجددة. لنأخذ نماذج الطقس على سبيل المثال، إذ يمكن تقدير حجم الطاقة التي ينبغي أن تولدها مجموعة طاقة شمسية أو مزرعة رياح معينة في أية لحظة، على غرار ما يفعله متداولو عقود الكهرباء لتعظيم الأرباح.
من ثم، يمكن أن توفر هذه المعايير وسيلة تحوط فعالة لكل من المنتجين والحكومات من دون المساس بحوافز السوق. كما يمكن للمنتجين الاستفادة من خلال بيع المزيد بأسعار مرتفعة، أو أقل بأسعار منخفضة. بالتالي، ستكون قرارات الاستثمار مدفوعة باحتياجات المستهلك.
فلماذا لا تستخدم الحكومات مثل هذه العقود ؟ إن الجمود هو التفسير المترفق لعدم اعتمادها حتى الآن.
لا تزال الحكومات عالقة في الماضي، حين كان التحدي الأساسي هو بناء القدرات، ولم تكن مشاريع الطاقة المتجددة قادرة على المنافسة من دون دعم حكومي. غير أن تلك الحكومات بحاجة إلى تحديث افتراضاتها الآن لتتناسب مع واقع التحول الأخضر وأهدافه.