النفاق والمنافقين (3)
الحمدُ لله الذي من اعتصم بحبل رجائه وفقه وهداه، ومن لجأ إليه حفظه ووقاه، ومن تواضع له رفعه وحماه. أحمده سبحانه على ما أعطى من الإنعام وأولاه، وأشكره على ما خوّله بفضله وأسداه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من عرف الله بصفاته ولم يعامل أحدًا سواه. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله إلى خلقه بالتوحيد وأوصاه بتقواه، وعن طاعة الكفار والمنافقين حذّره ونهاه. اللهم صلّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين عضوا على سنته بالنواجذ وتمسكوا بهداه. وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق تقاته واعلموا أن من اتقى الله وقاه. قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
عباد الله: مع اللقاء الثالث والأخير، مع النفاق والمنافقين.
اقتضت حكمة العليم الحكيم -سبحانه وتعالى - في ابتلاء عباده المؤمنين أن جعل على طريق الخير أُناسًا يصدّون الناس عنها، ويدعونهم إلى غيرها، كما جعل على طريق الشر دعاة إليها، يرغبون الناس فيها، فمن أطاعهم قذفوه في النار، ومن عصاهم كان من أهل الجنة.
والذين يصدون عن الخير، ويدعون إلى الشر، منهم طائفة بينةٌ واضحةٌ، تُعلن محادتَها لله - تعالى - ولشريعته، وتصرّح بدعوتها دون تلوّن ولا التواء، وهي الطائفة الأكثر من ضُلاّل البشر، وهي الأقوى شوكة، والأمضى عزيمة في معسكر الكفر والضلال.
قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 116]. وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف: 103]. ﴿ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 17].
ومنهم طائِفة هي أقلُّ منها عددًا، وأضعف قوة، ولكنها أشدّ فتكًا وخطرًا من الأولى، رغم قلَّتها وضعفها؛ لأنها خفية لا تبين، ومستترة لا تظهر.
إنها طائفة المنافقين، التي انتدبت نفسها لمهمة خسيسة حقيرة، تجمعُ الرذائل كلَّها من الكفر والجبنِ والكذبِ والغشِّ والخداعِ والفسادِ والإفساد. طائفة تعيش في صفوف المؤمنين، وتأكلُ من زادهم، وتنعم بحمايتهم، وتتبادل المصالح معهم؛ ولكن قلوب أصحابها مع الكافرين، وإخلاصهم لهم، وعملهم من أجلهم.
ولخطورة هذه الطائفة على المسلمين؛ فإن القرآن بادر على الفور إلى التحذير منها أشد من تحذيره من الكافرين.
المنافقون إن رأوا في المسلمين قوة استتروا بالإسلام، وانقلبوا إلى وعاظ، وإن رأوا في المسلمين ضعفًا انقلبوا عليهم، وانتقدوا شريعتهم، واستمعوا رحمكم الله - تعالى - إلى قول الله تعالى فيهم، فإنه منطبق عليهم في هذا العصر، يقول - سبحانه -: ﴿ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النساء: 141].
إنهم مع القوي، ومع المصلحة الآنية، مع من يدفع أكثر وصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: «بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا؛ يبيع دينه بعرض الدنيا» [أخرجه مسلم في صحيحه]، ولقد نهاهم النبيون والعلماء، والدعاة والمصلحون عن الإفساد في الأرض، فيزعمون الصلاح والإصلاح ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 11]، وهل بعد النفاق فساد وإفساد؟!..
إنهم مفسدون في الأرض، يسعون لتخريب كل بذرة خير، وكل نبتةٍ طيبة، وبعد هذا كله، يزعمون أنهم مُصلحون، أبرار.
إنها والله معجزة، نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - تخبر عن صفة من صفات المنافقين، نراها اليوم ماثلة أمام أعيننا، وكأن القرآن يحدثنا عن منافقي هذا العصر، الذين يُنهون عن الفساد في الأرض فيزعمون الصلاح ويقولون: ﴿ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 11].
أليس المنافقون في هذا العصر يظاهرون الكافرين على المؤمنين، ويرفضون من أحكام الشريعة ما لا يوافق أهواءهم وأهواء الذين كفروا؟
أليسوا يريدون إفساد المرأة، وتفكيك الأسرة، واختلاط الرجال بالنساء؟
أليسوا باسم الحريات يطالبون بإباحة الزنا والخمور وسائر المحرمات؟
أليسوا ينادون بتغريب المجتمعات المسلمة، ويطالبونها بالتخلي عن دينها وثقافتها وأخلاقها، ويجعلون ذلك عنوان التقدم والرقي والحضارة؟!
ويزعمون أنهم مصلحون، وأنهم وطنيون مخلصون لأوطانهم، وأنهم ما أرادوا إلا سعادة أمتهم ورقيّها ورفاهيتها! تلك هي أقوالهم وكتاباتهم!!
إن المنافقين ظلوا طوال السنين - ولا يزالون - يُظهرون النصح للأمة في أثواب قومية، أو شعارات وطنية، فلما كان الجدّ والمواجهة وجدناهم أول من تخلى عن الأوطان، وباعها بثمن بخس للأعداء؛ وهم في هذا كله يخدعون الذين آمنوا، ويظهرون أنهم معهم وهم مع أعدائهم: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [البقرة: 14]. وشياطينهم هم أعداء الذين آمنوا من أي دين ومذهب. وهذا من مخادعتهم للمؤمنين، ومن خيانتهم العظمى للأمة ﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [البقرة: 15]. والله تعالى يُملي لهم، فيحققون بعض ما يريدون من السوء والشر؛ حتى يستدرجهم بذلك، فيُرديهم ويهلكهم.
عباد الله: من رفض شيئًا من شريعة الله - تعالى - من أجل هواه، أو رأيٍ رآه فإنه يُخشى عليه من النفاق ولو كان من المصلِّين؛ لأن من سمات المنافقين رفضهم لشريعة الله سبحانه.
أيها المسلمون: فتح الله باب التوبة للناس أجمعين، ولن تُغلق باب التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها.
وفتح الله باب التوبة حتى للمنافقين ولكن يلزم هؤلاء المنافقين عند توبتهم الإصلاح مقابل ما قاموا به من الفساد والإفساد في الأرض، كما يلزمهم الاعتصام بالله تعالى وإخلاص الدين لله سبحانه. قال الله الخبير سبحانه: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 145، 146].
عباد الله:
أصول هذا النفاق ترجع إلى أربع خصال وهي المذكورة في الحديث كما روى مسلم عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدّث كذب واذا عاهد غدر واذا وعد أخلف واذا خاصم فجر».
أول هذه الخصال والصفات الكذب في الحديث: «إذا حدّث كذب» والكذب في الحديث يشمل الكذب عن الله ورسوله: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الأنعام: 21]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» [أخرجه البخاري: كتاب العلم باب إثم من كذب على النبى صلى الله عليه وسلم 1/ 36، مسلم كتاب الزهد باب التثبت في الحديث 18 / 129].
ومن الكذب على الله ورسوله أن يقول هذا حلال وهذا حرام من غير دليل عن الله ورسوله، ويشمل ذلك أيضًا الكذب فيما يُخبر به من الأخبار ويُحدّث به الناس، فمن كان هذا شأنه فقد هبط عن رتبة الصادقين إلى دَرَك الكاذبين وسيجُرّه كذبه هذا إلى الفجور، وسيجُرّه الفجور إلى النار. فلا تتساهلوا في شأن الكذب- أيها المسلمون - فإن قليله يجر إلى كثيره ومن أكثر من شيء عُرف به.
الزموا الصدق فإن من لزم الصدق نجا قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]، وقال تعالى: ﴿ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [المائدة: 119].
الخصلة الثانية من خصال المنافق أنه: «إذا اؤتمن خان» أي إذا كانت عنده أمانة من الأموال أو الحقوق أو الأسرار أضاعها ولم يحفظها، فأكل الوديعة أو جحدها، أو أهدر الحقوق وأفشى الأسرار. وإذا ولى عملًا من أعمال المسلمين تلاعب فيه بالمحاباة وأخذ الرشوة وتعطيل مصالح المسلمين.
الخصلة الثالثة من خصال المنافق أنه: «إذا عاهد غدر» فهو ينكث العهود التي بينه وبين الله والعهود التي بينه وبين الخلق، فلا يفي بالعهد الذي أمر الله بالوفاء به في قوله تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 34]وقوله: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ﴾ [النحل: 91].
الخصلة الرابعة من خصال المنافق أنه «إذا خاصم فجر» فلا يتورّع عن أموال الخلق وحقوقهم فيخاصم بالباطل ليستولي على حق غيره ويُضللّ الحاكم بشهادة الزور والأَيمان الكاذبة والوثائق المصطنعة، فإذا كان ذا قدرة عند الخصومة فإنه ينتصر للباطل ويخيّل للسامع أنه حق، ويُخرج الحق في صورة الباطل وهذا من أقبح المحرمات وأخبث خصال النفاق.
عباد الله:
من تجمعت فيه هذه الصفات القبيحة: الكذب في الحديث والخيانة في الأمانة والغدر في العهود والفجور في الخصومات لم يبق معه من الإيمان شيء وصار منافقًا خالصًا؛ فهي بمنزلة الأمراض الخطيرة التي متى تجمّعت في جسدٍ أفسدته وقضت عليه، ومن كانت فيه خصلة واحدة منها فقد اتصف بصفة من صفات المنافقين وصار فيه إيمان ونفاق، فإن استمرت فيه هذه الخصلة الذميمة فهي كفيلة أن تقضي على ما معه من الإيمان، فإنها بمنزلة الداء الخبيث الذي يحل بالجسم فإن لم يسعَ في علاجه وإزالته قضى على الجسد، وإن تاب إلى الله وترك هذه الخصلة الذميمة واتصف بضدها من صفات الإيمان برئ من النفاق وتكامل إيمانه وهذا شأن المسلم.
ومن صفات المنافقين أنهم سفهاء زائفون: يتعالون على الناس، ويعدُّون الإيمان والإخلاص لله- عز وجل - نوعًا من السَّفَاهةِ، لكنَّهُم في حقيقة الأمر.. هم السُّفهاء المنحرفون، قال الله عنهم﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 13].
عباد الله: بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله:
ومن صفاتهم أنهم مخادعون متآمرون: فهم أصحاب مكرٍ سيئ، يتصفون بالخسَّة واللُّؤم والجُبن والخبث، يتلوَّنون حسب الظروف، فهم أمام المؤمنين متستِّرون بالإيمان، وأمام الكافرين وشياطين الإنس يخلعون ذلك الستار عن كاهلهم، فيظهرون على حقيقتهم الخسيسة، قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 16]. أليسوا هم الذين ارتضوا لأنفسهم هذا المصيرَ؟!.. ألم يكن الإيمانُ في متناولهم؟!..
ألم يكن الهدى يُلامس قلوبهم وأنفسهم؟!.. فليذوقوا إذن تبعات الظلام الذي ارتضوه لنفوسهم: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [البقرة: 17].
ومن صفاتهم غادرون لا عهد لهم: يعاهدون الله على فعل الخيرات، وعلى الالتزام بما يأمرهم به ربهم، لكنَّ قلوبهم خَواء، وعقولهم هُراء، وشياطينهم متمكّنون من رقابهم، فهم ناقضون لعهد الله- عز وجل -:﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [التوبة: 75 - 77].
ومن صفاتهم أنهم يتولّون الكافرين ويتنكّرون للمؤمنين: زاعمين أنَّ العِزة عند الكافرين، فيسعون لها عندهم، لكنهم لن يجدوها إلا عند الله العزيز الجبَّار: ﴿ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 139].
ومن صفاتهم أنهم يفرحون لما يُصيب المؤمنين مِنْ سُوءٍ ومحنةٍ: وكذلك يحزنون لكل خيرٍ أو فرحٍ يمكن أن يحصلَ لأهلِ الإيمانِ والمجاهدين في سبيل الله- عز وجل، قال تعالى: -:﴿ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [آل عمران: 120].
ومن صفاتهم أنهم مُرجِفون: فليس لهم من هَمٍّ عند المحن والشدائد إلا الإرجاف، والتخويف، وتثبيط العزائم، وإرهاق الهِمَم..
إنهم السوس الذي ينخر في صفوف المؤمنين، محاولين تحقيق ما لم يستطع العدوُّ تحقيقه في الأمة، فيشقُّون الصفوف، ويُثيرون الفتنة، ويحاولون زعزعة أي تماسكٍ للمؤمنين: ﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [الأحزاب: 12].
ومن صفاتهم أنهم يتولّون يومَ الزحفِ: فعند وقوع المحنة والبلاء، وحين تحين ساعة الاستحقاق.. تراهم أول الفارِّين، وفي طليعة الخائرين الخائفين، يُولُّون الأدبار، ويتوارون عن ساحات النزال الحقيقية، بكل أصنافها وأشكالها وألوانها: ﴿ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الحشر: 11]. ﴿ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا ﴾ [التوبة: 47].
ومن صفاتهم أنهم يرفضون الحكم بما أنزل الله ويتحاكمون إلى الطاغوت:
لأن الحكم بما أنزل الله لا يُوافق أهواءهم، ولا يُحقق مآربهم، ولا يستجيب لنزواتهم.. فهم يؤمنون بما أنزل الله _عز وجل_ باللسان والمظهر فحسب، لكنهم لا ينصاعون لحكم الله، بل يصدُّون عنه ويُحاربونه، ويتَّخذون من قوانين البشر الوضعية دينًا لهم، يأتمرون بأمرها، ويلتزمون بها؛ لأنها وحدها تتوافق مع شرورهم ومصالحهم، قال تعالى عنهم: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ﴾ [النساء: 60، 61].
ومن صفاتهم الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف: إن أهل النفاق رجالًا ونساءً، يتشابهون في صفاتهم وأخلاقهم وأعمالهم، يأمر بعضهم بعضا بفعل المنكر، كالكذب والخيانة، وإخلاف الوعد، ونقض العهد، وينهون عن فعل الخير والمعروف: كالجهاد، وبذل المال في سبيل الله، ويضنون بالإنفاق في وجوه البر والطاعات والإحسان إلى عبادة الله. قال تعالى: ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [التوبة: 67].
ومن صفاتهم تشويه الحقائق وتحريفها وبث الإشاعات: وهي نقطة مهمة يركز عليها المنافقون، فهم يُظهرون الحقائق الناصعة بمظهر مشوّه، وهذا ما صنعه المنافقون في حادثة الإفك.
وحادثة أخرى قالوا: ما نرى قُرّاؤنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء؛ فأنزل الله تعالى قوله: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ [التوبة: 65، 66]. أطْلَع الله نبيه على مقالاتهم فدعاهم، فقالوا: ﴿ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ﴾ [التوبة: 65] فقال تعالى: ﴿ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [التوبة: 65].
ومن صفاتهم إثارة روح الاختلاف والنزاعات بين المسلمين: إن المنافقين يسعون جاهدين إلى تقطيع الأواصر الإسلامية المتلاحمة وتفتيت القوى المتحدة، وتبديد الطاقات المؤمنة، وإثارة روح الخلافات الجانبية فيما بينها، وهذا ولا شك أسلوب لو قدر له النجاح فإنه سيؤدي إلى هزيمة نكراء تعصف بالمد الإسلامي وتفسح المجال للأعداء الداخليين والخارجيين لكي يستولوا على مقاليد الأمور.
ومن صفاتهم الخبيثة طعنهم في المؤمنين وتشكيكهم في نوايا الطائعين:
قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 79]. هذه الآية نزلت في عبد الرحمن بن عوف وقد تصدّق بأربعة آلاف درهم فقال المنافقون: " ما أعطى إلا رياء وسمعة"، وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر فجاء بهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أصبت صاعين من تمر صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي"، فقال المنافقون: "ألم يكن الله ورسوله غني عن صاع هذا"، وهذا شأن المنافق يسخر من العاملين المنفقين وهو لا يُقدم شيئا من مال أو كلمة طيبة.
ومن صفاتهم صد الناس عن الإنفاق في سبيل الله.. ﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ﴾ [المنافقون: 7].
ومن صفاتهم التستر ببعض الأعمال المشروعة للإضرار بالمؤمنين: فلهم مساجد ولهم جمعيات ولهم معاهد لكن الهدف منها الإضرار بالمسلمين والتفريق لصف المسلمين قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا ﴾ [التوبة: 107].
ومن صفاتهم التجسس وخدمة العدو الخارجي: وهذه مهمة أساسية من مهام المنافقين حيث يُقدّمون للعدو الخارجي رضي الله عنه لذي يرتبطون به كل ما يتعلق بنشاطات المسلمين، وتحركاتهم، والشخصيات البارزة، والإمكانيات العسكرية، والخطوط التنظيمية.
عباد الله:
الجنة درجات والنار دركات والمنافقين في أسفلها يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «إن المنافق يجعل في تابوت من حديد يصمد عليه ثم يجعل في الدرك الأسفل لأنه ضم إلى الكفر الاستهزاء بالإسلام وأهله».
ويوم القيامة يُحرم المنافقين من النور، قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾ [الحديد: 13]. قال الضحاك رحمه الله: «ليس أحد إلا يُعطى نورًا يوم القيامة (أي على قدر أعمالهم)»، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نورا فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه وكان النور دليلًا من الله إلى الجنة، فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا اتبعوهم فأظلم الله على المنافقين وضُرب بينهم بسورٍ باطنه الجنة وظاهره النار حيث النفاق والحيرة والشك والعذاب».
هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمي
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|