كسرة الذنب
الحمدُ للهِ غافرِ الذنوبِ، وجابرِ كسرِ القلوبِ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ علامُ الغيوبِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ وسلّمَ عليه وعلى آلِه وصحبِه ما أشرقتْ شمسٌ وأَفَلَتْ بغروبٍ.
أما بعدُ. فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ-؛ ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
أيها المؤمنون!
حكمةُ اللهِ بالغةٌ! ولطفُه دقيقٌ! ومن بليغِ حكمتِه ودقيقِ لطفِه أنْ يُوصِلَ الخيرَ لمن اصطفاه من عبادِه بطريقٍ ظاهرُه الكراهةُ والألمُ، وباطنُه الخيرُ والسرورُ وحميدُ العاقبةِ. ومن تلك اللطائفِ الربانيةِ أنْ يُقَدِّرَ على عبدِه مُقارفةَ ذنبٍ؛ به يكسرُه، وتَلُومُه عليه نفسُه، ويَعلوه شعورُ الذلِّ والحياءِ من مولاه، ويتملَّكُه إحساسُ الضَّعفِ والانكسارِ؛ ليكونَ حالُه بعدَه خيراً مما كان قَبْلَه، ولِيذيقَه بمرارةِ هذا الانكسارِ حلاوةَ جبْرِ الجَبَّارِ؛ وذاك من أجلِّ حِكمِ ابتلاءِ اللهِ بالذنبِ مَن أحبَّ مِن عبادِه! فيعيشَ العبدُ بذلك الذنبِ حالَ انكسارٍ شبَّهَهُ بعضُ أهلِ العلمِ بحالِ الإناءِ المرضوضِ تحت الأرجلِ، الذي لا شيءَ فيه، ولا به، ولا منه، ولا فيه منفعةٌ، ولا يُرغَبُ في مِثلِه، وأنه لا يَصلُحُ للانتفاعِ إلا بجبرٍ جديدٍ من صانعِه وقَيِّمِه؛ لِيَشهدَ في كلِّ ذرةٍ من ذرَّاتِه الباطنةِ والظاهرةِ ضرورةً تامةً، وافتقاراً تامَّاً إلى ربِّه ووليِّه، ومَن بيدِه صلاحُه وفلاحُه، وهُداه وسعادتُه. وذلك الانكسارُ محبوبٌ للملكِ الجبَّارِ! وصاحبُه عنده غالٍ! قال ابنُ القيمِ: " وأحَبُّ ما إليه انكسارُ قلبِ عبدِه بين يديه، وتذلُّلُه له، وإظهارُ ضعفِه وفاقتِه وعجزهِ وقلةِ صبرِه". وما ذاك إلا أنَّ الانكسارَ للهِ هو لُبُّ العبوديةِ وصُلْبُها ومُخُّها ورُوحُها؛ فما قُرْبُ اللهِ من عبدِه الساجدِ والمريضِ، وإجابتُه دعوةَ المضطرِ والمظلومِ والمسافرِ المغتربِ والوالدِ الشفيقِ إلا جبْراً لهم حين انكسرتْ قلوبُهم بين يديه!
عبادَ اللهِ!
بكسرةِ الذنْبِ تُساقُ هِباتُ الربِّ؛ فما ضُرَّ مَن كسرَه عزُّ اللهِ إذا جبرَه فضلُ اللهِ! فبذلك الانكسارِ تُنالُ محبةُ اللهُ واجتباؤه؛ كما نالها آدمُ ويونسُ-عليهما السلامُ- بعد انكسارِ الخطيئةِ، وحازتْها الغامديةُ التائبةُ -رضيَ اللهُ عنها- التي وسِعتْ مغفرةُ توبتِها ذنوبَ أهلِ المُكوسِ! وبتلك الكسرةِ يَعظمُ التعلقُ بالمولى ويَشتدُّ، كما عَظمَ تعلُّقُ المتخلِّفين الثلاثةِ باللهِ حتى تيقّنوا ألا مَلَجأَ منه إلا إليه؛ فجبَرَ اللهُ كسرَهم حين تعلقوا به بتوبتِه عليهم، فقال: ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 118]. ذكرَ ابنُ الجوزيِّ أنَّ فتىً كان يشكو من حالِ قلبِه فيقولُ: آهٍ أَيْنَ قَلْبِي، مَنْ وَجَدَ قَلْبِي؟! فَدَخَلَ يَوْمًا بَعْضَ السِّكَكِ، فَوَجَدَ صَبِيًّا يَبْكِي وَأُمُّهُ تَضْرِبُهُ، ثُمَّ أَخْرَجَتْهُ مِنَ الدَّارِ، وَأَغْلَقَتِ الْبَابَ دُونَهُ، فَجَعَلَ الصَّبِيَّ يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا لَا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ وَلَا أَيْنَ يَقْصِدُ، فَرَجَعَ إِلَى بَابِ الدَّارِ، فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ: يَا أُمَّاهُ مَنْ يَفْتَحُ لِيَ الْبَابَ إِذَا أَغْلَقْتِ عَنِّي بَابَكِ؟ وَمَنْ يُدْنِينِي إِذَا طَرَدْتِينِي؟ وَمَنِ الَّذِي يُدْنِينِي إِذَا غَضِبْتِ عَلَيَّ؟ فَرَحِمَتْهُ أُمُّهُ، فَنَظَرَتْ مِنْ خَلَلِ الْبَابِ، فَوَجَدَتْ وَلَدَهَا تَجْرِي الدُّمُوعُ عَلَى خَدَّيْهِ مُتَمَعِّكًا فِي التُّرَابِ، فَفَتَحَتِ الْبَابَ، وَأَخَذَتْهُ حَتَّى وَضَعَتْهُ فِي حِجْرِهَا وَجَعَلَتْ تُقَبِّلُهُ، وَتَقُولُ: يَا قُرَّةَ عَيْنِي، وَيَا عَزِيزَ نَفْسِي، أَنْتَ الَّذِي حَمَلْتَنِي عَلَى نَفْسِكَ، وَأَنْتَ الَّذِي تَعَرَّضْتَ لِمَا حَلَّ بِكَ، لَوْ كُنْتَ أَطَعْتَنِي لَمْ تَلْقَ مِنِّي مَكْرُوهًا، فَتَوَاجَدَ الْفَتَى، ثُمَّ قَامَ فَصَاحَ، وَقَالَ: قَدْ وَجَدْتُ قَلْبِي، قَدْ وَجَدْتُ قَلْبِي! وبكسرةِ الذنبِ تَعظمُ الخشيةُ من اللهِ، وتُنالُ الاستقامةُ.
قال الحسنُ البصريُّ: " إنّ العبدَ لَيعملُ الذنبَ فلا يَنساه، ولا يزالُ متخوِّفاً منه حتى يَدخلَ الجنةَ ". وكسرةُ الذنبِ مضخَّةُ طاقةٍ إيمانيةٍ تَحملُ العبدَ على النشاطِ في الطاعةِ؛ فقد ذكرَ ابنُ القيمِ: " أَنَّ ذَنْبَ الْعَارِفِ بِاللَّهِ وَبِأَمْرِهِ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حَسَنَاتٌ أَكْبَرُ مِنْهُ وَأَكْثَرُ، وَأَعْظَمُ نَفْعًا، وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ عِصْمَتِهِ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ؛ مَنْ ذُلٍّ، وَانْكِسَارٍ، وَخَشْيَةٍ، وَإِنَابَةٍ، وَنَدَمٍ، وَتَدَارُكٍ بِمُرَاغَمَةِ الْعَدُوِّ بِحَسَنَةٍ أَوْ حَسَنَاتٍ أَعْظَمَ مِنْهُ، حَتَّى يَقُولَ الشَّيْطَانُ: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوقِعْهُ فِيمَا أَوْقَعْتُهُ فِيهِ! وَيَنْدَمُ الشَّيْطَانُ عَلَى إِيقَاعِهِ فِي الذَّنْبِ، كَنَدَامَةِ فَاعِلِهِ عَلَى ارْتِكَابِهِ، لَكِنْ شَتَّانَ مَا بَيْنَ النَّدَمَيْنِ! ". ومن أعظمِ الطاعاتِ التي تَحملُ عليها كسرةُ الذنبِ الإزراءُ بالنفسِ ومَقْتُها في ذاتِ الله واستشعارُ نقصِها وجنايتِها، قال ابنُ القيمِ: " ومقتُ النفسِ في ذاتِ اللهِ من صفاتِ الصدِّيقين، ويدنو العبدُ به من اللهِ -سبحانه- في لحظةٍ واحدةٍ أضعافَ أضعافِ ما يدنو به بالعملِ ". والتضرعُ في الدعاءِ والاستغفارِ من أعظمِ الصالحاتِ التي تكونُ بكسرةِ الذنبِ، قال ابنُ القيمِ: " إذا أرادَ اللهُ بعبدِه خيراً فَتحَ له من أبوابِ التوبةِ والندمِ والانكسارِ والذلِّ والافتقارِ والاستعانةِ به وصدقِ اللجأِ إليه ودوامِ التضرعِ والدعاءِ والتقربِ إليه بما أمكنَ من الحسناتِ ما تكونُ تلك السيئةُ به رحمتَه، حتى يقولَ عدوُّ اللهِ: يا ليتني تركتُه ولم أُوقِعْه ".
ومع هذا النشاطِ التعبديِّ فإنّ كسرةَ الذنبِ تحملُ العبدَ على استقلالِ عملِه؛ فيَسلَمُ من داءيءْ حبوطِ العملِ؛ مُراءةِ الناسِ، وإعجابِ المرءِ بعملِه. قال الحسنُ البصريُّ: " لو أنَّ ابنَ آدمَ كلما قالَ أصابَ، وكلما عملَ أحسنَ؛ أوشكَ أنْ يُجَنَّ من العُجْبِ ". قال ابنُ رجبٍ: " قال بعضُهم: ذنبٌ أفتقرُ به أحبُّ إليه من طاعةٍ أَدُلُّ بها عليه. أنينُ المذنبينَ أحبُّ إليه من زَجَلِ المُسبِّحين؛ لأنَّ زَجَلَ المسبحين ربما شابَهُ الافتخارُ، وأنينُ المذنبين يُزَيِّنُه الانكسارُ والافتقارُ".
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ.
أما بعدُ. فاعلموا أنَّ أحسنَ الحديثِ كتابُ اللهِ...
أيها المؤمنون!
وبكسرةِ الذنبِ يَخشعُ القلبُ، وتَستكينُ الجوارحُ، ويَتملَّكُها شعورُ المراقبةِ واستحضارِ النظرِ الإلهيِّ؛ وذلك سبيلُ الفلاحِ، ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 1، 2]. وعُقبى كسرةِ الذنبِ جبرٌ ربانيٌّ كريمٌ؛ مغفرةٌ من اللهِ، واجتباءٌ، وإجابةُ دعاءٍ، وعزٌّ، ونصرٌ، ورزقٌ كريمٌ، وذلك ما أَعْقَبَتْه كسرةُ الخطيئةِ لآدمَ ويونسَ -عليهما السلامُ-؛ ﴿ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴾ [طه: 121، 122] ﴿ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [القلم: 49، 50]. وذكرَ ابنُ رجبٍ أنَّ " الْمُؤْمِنَ إِذَا اسْتَبْطَأَ الْفَرَجَ، وَأَيِسَ مِنْهُ بَعْدَ كَثْرَةِ دُعَائِهِ وَتَضَرُّعِهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ أَثَرُ الْإِجَابَةِ، فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ بِاللَّائِمَةِ، وَقَالَ لَهَا: إِنَّمَا أُتِيتُ مِنْ قِبَلِكِ، وَلَوْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ لَأُجِبْتُ! وَهَذَا اللَّوْمُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الطَّاعَاتِ؛ فَإِنَّهُ يُوجِبُ انْكِسَارَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ، وَاعْتِرَافَهُ لَهُ بِأَنَّهُ أَهْلٌ لِمَا نَزَلَ مِنَ الْبَلَاءِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ، فَلِذَلِكَ تُسْرِعُ إِلَيْهِ حِينَئِذٍ إِجَابَةُ الدُّعَاءِ وَتَفْرِيجُ الْكُرَبِ، فَإِنَّهُ -تَعَالَى- عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِهِ ". وقال ابنُ القيمِ: " خِلْعة النصرِ إنما تكونُ مع ولايةِ الذلِّ والانكسارِ؛ قال -تعالى-: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾ [آل عمران: 123]، وقال: ﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ ﴾ [التوبة: 25]، فهو -سبحانه- إذا أرادَ أن يُعِزَّ عبدَه ويجبرَه وينصرَه؛ كسَرَه أولًا، ويكونُ جَبْرُه له ونصرُه على مِقدارِ ذُلِّه وانكسارِه ". ولِكسرةِ الذنبِ أثرٌ حسنٌ في هناءِ العيشِ وبركةِ الرزقِ؛ بجعْلِ صاحبِها قَنوعاً؛ يَسْتَكْثِرُ ما يَصِلُ إليه مِنْ رَبِّهِ مِنَ الْخَيْرِ، وَيَرَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ قَلِيلًا مِنْهُ وَلَا كَثِيرًا، فَأَيُّ خَيْرٍ لَهُ مِنَ اللَّهِ اسْتَكْثَرَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلِمَ أَنَّ قَدْرَهُ دُونَهُ، وَأَنَّ رَحْمَةَ رَبِّهِ هِيَ الَّتِي اقْتَضَتْ ذِكْرَهُ بِهِ، وَسِيَاقَتَهُ إِلَيْهِ، وَاسْتَقَلَّ مَا مِنْ نَفْسِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ لِرَبِّهِ، وَرَآهَا وَلَوْ سَاوَتْ طَاعَاتِ الثَّقَلَيْنِ مِنْ أَقَلِّ مَا يَنْبَغِي لِرَبِّهِ عَلَيْهِ، وَاسْتَكْثَرَ قَلِيلَ مَعَاصِيهِ وَذُنُوبِهِ، فَإِنَّ الْكَسْرَةَ الَّتِي حَصَلَتْ لِقَلْبِهِ أَوْجَبَتْ لَهُ هَذَا كُلَّهُ!". وأنه " إذا شهدَ إساءَتَه وظلمَه، استكثرَ القليلَ من نعمةِ ربِّه؛ لِعلمِه بأنَّ الواصلَ إليه منها كثيرٌ على مسيءٍ مثلِه؛ واستقلَّ الكثيرَ من عملِه؛ لِعلمِه بأنَّ الذي يَصْلُحُ له أنْ يَغسلَ به نجاسَتَه وَوضَرَ ذنوبِه أضعافُ أضعافِ ما يفعلُه، فهو دائمًا مستقِلٌّ لعملِه كائنًا ما كانَ. ولو لم يكن في فوائدِ الذنبِ وحِكَمِه إلا هذا وحده لكان كافيًا ".
وكسرةُ الذنبِ رحمةٌ تَسكنُ قلبَ صاحبِها، وتُكسِبُه النظرَ بعينِ الرحمةِ للمذنبين مع إقامةِ أمرِ اللهِ فيهم؛ " يقيمُ معاذيرَ الخلائقِ، وتتَّسعُ رحمتُه لهم، وينفرِجُ بِطانُه، ويزولُ عنه ذلك الحَصَرُ والضِّيقُ والانحراجُ وأكلُ بعضِه بعضًا، ويستريحُ العصاةُ من دعائه عليهم، وقُنوتِه عليهم، وسؤالُ اللهِ أنْ يَخسِفَ بهمُ الأرضَ ويُسلِّطَ عليهمُ البلاءَ؛ فإنه حينئذٍ يرى نفسَه واحدًا منهم، فهو يسألُ اللهَ لهم ما يسألُه لنفسِه، وإذا دعا لنفسِه بالتَّوبةِ والمغفرةِ والعفوِ أدخلَهم معه؛ فيرجو لهم فوقَ ما يرجو لنفسه، ويخافُ على نفسِه أكثرَ مما يَخافُ عليهم. فأين هذا مِنْ حالِه الأُولى وهو ناظرٌ إليهم بعينِ الاحتقارِ والازدراءِ، لا يجدُ في قلبِه رحمةً لهم، ولا دعوةً، ولا يرجو لهم نجاةً؟! فالذَّنبُ في حقِّ مثلِ هذا من أعظمِ أسبابِ رحمتِه، ومع هذا فيقيمُ أمرَ اللهِ فيهم؛ طاعةً للهِ ورحمةً بهم وإحسانًا إليهم، إذ هو عينُ مصلحتِهم، لا غلظةً ولا قوَّةً ولا فظاظةً " كما قال ابنُ القيمِ.
عبادَ اللهِ!
إنما تكونُ هِباتُ الانكسارِ بإقالةِ العِثارِ وتصحيحِ المَسارِ، وتحقيقِ التوبةِ وإنْ عادَ للذنبِ مرةً أخرى. وأخطرُ ما يكونُ الذنبُ إنْ خلا من كسرتِه وظل صاحبُه عديمَ الشعورِ بالمعصيةِ، وأخطرُ من ذلك أنْ يُسَرَّ به، وأخطرُ من ذلك أنْ يُجاهِرَ به أمامَ الخلقِ، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ ستره الله، فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ الله عنه " رواه البخاريُّ ومسلمٌ. وما ذاك إلا أنَّ المجاهرةَ بالذنبِ استخفافٌ بحقِّ اللهِ وحقِّ رسولِه صلى الله عليه وسلم، ونوعٌ من العنادِ لهما، وتجرئةٌ للغَيرِ على تقحُّمِ وَحَلِ الخطايا. وشتَّانَ ما بين ذلةِ الانكسارِ وقِحَةِ الجِهارِ!
يا ربِّ إنْ عَظُمتْ ذنوبي كثرة
فلقد علمتُ بأنَّ عفوَك أعظمُ
إنْ كان لا يرجوكَ إلا محسن
فبِمَن يلوذُ ويَستجيرُ المجرمُ
أدعوكَ ربِّ كما أمرتَ تضرّعا
فإذا رددتَ يدي فمَن ذا يَرحمُ
ما لي إليكَ وسيلةٌ إلا الرجا
وجميلُ عفوِك ثُمَّ أنّي مُسْلِمُ
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|