مع الخوف والخائفين (2)
الحمد لله رب العالمين اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق...
اللهم لك أسلمنا وبك آمنا، وعليك توكلنا وبك خاصمنا، وإليك حاكمنا، فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت...
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كل شيءٍ قائم به وكل شيءٍ خاضع له، غنى كل فقير، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف.
من تكلم سمع نطَقه، ومن سكت علم سرَّه، ومن عاش فعليه رزقه،ومن مات فإليه منقلبه. نسأله تعالى الذي جمعنا بكم على طاعته أن يجمعنا بكم في دار كرامته ومستقر رحمته.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا...
وبعد..
عباد الله: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه.
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الأنفال: 29].
أيها المؤمنون: إننا نعيش عصرًا طغت فيه الماديات والشهوات، وكثر فيه القتل وانتهاك الحرمات، وانحرف فيه كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسماوات، إننا نعيش في عصر قست فيه القلوب، وتراكمت فيه الذنوب على الذنوب، وقل فيه الخوف من علام الغيوب، ولهذا وقفنا وإياكم مع الخوف والخائفين لعل القلوب تخشع وتخضع وتعظم رب الأرباب ومسبب الأسباب.
لأنه من خاف الله دله الخوف على كل خير، أخي الكريم اسمع إلى وصية محب وهو الحسن البصري يقول: "والله إنك إن تخالط أقوامًا يخوفونك في الدنيا حتى يدركَك الأمن في الآخرة، خير من أن تصحب أقوامًا يؤمنونك في الدنيا حتى يدركَك الخوف في الآخرة".
والخوف الحقيقي هو الذي يحول بين العبد وبين معصية الله، ويدفع العبد دفعًا إلى طاعة سيده ومولاه، فليس الخائف من يبكي ويمسح عينيه ثم ينطلق ليرتكب المعاصي والذنوب، ولكن الخائف من يترك المعاصي والحرمات خوفا من علام الغيوب.
عباد الله: ما هي الأسباب التي تورث الخوف من الله:
ما هي الأسباب التي لو فعلناها يغرس الله في قلوبنا الخوف منه
أولا: تذكر عظمة الله وكبريائه وجبروته ومعرفة حقارة النفس.، فمن عرف الله حق معرفته خاف منه حق خوفه، ولذلك كان السلف يقولون: من كان بالله أعرف فهو لله أخوف.
قال ابن قدامة[1]: "قوة المراقبة والمحاسبة والخشية بحسب قوة الخوف، وقوة الخوف بحسب قوة المعرفة بجلال الله تعالى، وصفاته، وبعيوب النفس، وما بين يديها من الأخطار والأهوال".
فمن تأمل أسماء الله وصفاته ونظر فيها بعين الإيمان، ونظر لنفسه بالعجز، علم وأيقن أن الله لا يعجزُه شيء في الأرض ولا في السماء وأنه لو عذب أهل السموات والأرض لعذبهم وهو غيرُ ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمتُه خيرًا لهم من أعمالهم. جاء في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء حبر من أحبار اليهود إلى رسول الله فقال: يا محمد، إنا نجد عندنا أن الله عز وجل يجعل السموات على إصبع، والأرضين على أصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك. فضحك رسول الله تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزُّمَر:67].
هذه الآية قرأها النبي -صلى الله عليه وسلم- فرجف به المنبر حتى قال الصحابة ليخرنّ به، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول:" يأخذ الجبار سماواته وأرضه بيده ثم يقول أنا الجبار أين الجبارون أين المتكبرون". يا الله زدنا لك تعظيما وخشية وخوفا.
وعند مسلم من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم- بخمس كلمات فقال:" إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يَخفِضُ القسط ويرفعُه يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه". فلا اله إلا الله ما أعظمه ما قدرناه حق قدره.
فعلى قدر العلم بالله و بأسمائه وصفاته ونعوت جلاله، ومعرفة العبد بنفسه؛ يكون الخوف والخشية، كما قال النبي-صلى الله عليه وسلم-:"أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية".. بل إن الله عز وجل حصر خشيته في صنف واحد من الناس ألا وهم العلماء فقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر:28].
اذًا أول امر يغرس الخوف والخشية من الله التفكر في عظمة الله وجبروته وقدرته ورحمته.
ثانيًا: تدبر القرآن: قال ابن القيم-رحمه الله-: "ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن وجمع الفكر على معاني آياته".
قال تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص:29]
يقول ابن الجوزي: "والله لو أن مؤمنًا عاقلًا قرأ سورة الحديد وآخر سورة الحشر وآية الكرسي وسورة الإخلاص بتفكر وتدبر لتصدّع قلبه من خشية الله وتحيّر من عظمة الله".
ها هو رسول الله حبيب الله يقول لابن مسعود: «اقْرَأْ عَلَيَّ»، قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ، قَالَ: «نَعَمْ» قال فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الآيَةِ: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41]، قَالَ: «حَسْبُكَ الآنَ» فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ"
وسُئلت لعائشة رضي الله عنهما أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فسكتت ثم قالت لما كان ليلة من الليالي قال:" يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي"، قالت فقام فتطهر ثم قام يصلي قالت فلم يزل يبكي حتى بل حجره ثم بكى حتى بل الأرض فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال يا رسول الله: تبكي وقد غُفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: " أفلا أكون عبدا شكورا، لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190-191] [رواه ابن حبان في صحيحه وغيره].
وها هو عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -يقرأ سورة الطور حتى إذا بلغ قول الله عز وجل: (﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ﴾ [الطور: 7]
بكى واشتد بكاؤه، حتى مرض وعاده الناس.
فقراءة القرآن بتدبر، وتأمل وتفكر تغرس في القلب مخافة الله جل وعلا.
ثالثا: مما يزرع في القلوب الخوف من علام الغيوب التفكر في سوء الخاتمة
نعم إن: السعيُ لحسن الخاتمة غايةُ الصالحين، وهمةُ العباد المتقين، ورجاء الأبرار الخائفين، قال الله تعالى: ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132]
وقال تعالى في وصف أولي الألباب: ﴿ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴾ [آل عمران: 193]
وقال تعالى عن التائبين: ﴿ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ﴾ [الأعراف: 126]
سُئلت أُم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثر دعائه:" يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، قالت قلت: يا رسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟ قال:" يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ" فتلا معاذ ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8] حديث حسن صححه الألباني]، فمن وفَّقه الله لحُسن الخاتمة فقد سعِدَ سعادةً لا يشقى بعدها أبدًا، ولا كربَ عليه بعد ذلك التوفيق، ومن خُتِمَ له بسوء الخاتمة فقد خسِر في دنياه وأُخراه.
وكان سفيان الثوري يشتدُّ قلقه من الخواتيم فكان يبكي ويقول: أخافُ أن أكون في أمِّ الكتاب شقيًّا، ويبكي ويقول: أخافُ أن أُسلَبَ الإيمان عند الموت".
وقام ليلة يبكي حتى أصبح فلما سألوه: أكل هذا خوفا من الذنوب؟ فقال وقد أمسك تبنة من الأرض: والله لذنوبي أحقر عندي من هذه، ولكن أخشى سوء الخاتمة!!وقد قيل: "إن قلوب الأبرار مُعلَّقةٌ بالخواتيم يقولون: ماذا يُختَم لنا؟! فلماذا لا نخاف وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّار"َ اللهم احسن ختامنا يا أكرم الأكرمين.
أيها المؤمنون: لا زال الحديث مستمرا مع الخوف والخائفين في الجمعة القادمة بإذن الله
هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.
[1] ابن قُدَامَة (597 - 682 هـ = 1200 - 1283م)
عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي الجماعيلي الحنبلي، أبو الفرج، شمس الدين: فقيه، من أعيان الحنابلة. ولد وتوفي في دمشق. وهو أول من ولي قضاء الحنابلة بها، استمر فيه نحو 12 عاما ولم يتناول عليه (معلوما) ثم عزل نفسه. له تصانيف، منها (الشافي - ط) وهو الشرح الكبير للمقنع، في فقه الحنابلة.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|