خاتم النبيين (5)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير البرية أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
فمرحبًا بكم في برنامجكم خاتم النبيين، وقد ذكرنا في الحلقة السابقة المرحلة السرية للدعوة في بداية الوحي، ثم بعدها الحديث عن الدعوة الجهرية، وكيف كان واقعهم ومواقفهم رضي الله عنهم، ونستكمل في حلقتنا هذه امتداد تلك الدعوة الجهرية النبوية، وما كان في طريقها من عقبات، فإن الجهر بالدعوة اتسع؛ حيث أسلم عدد من أفراد القبائل في مكة وغيرها، فاتسعت دائرة المسلمين، وقويت شوكتهم، وفي هذه الأثناء بدأت قريش في محاربة تلك الدعوة، ووضع العقبات لها، فسلكوا لذلك عدة أساليب:
فالأسلوب الأول: مما سلكته قريش في مواجهة تلك الدعوة التهم الباطلة، والسب، والشتم، فلم تتورع قريش عن إلصاق التهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، فحينما كانوا يسمونه بالصادق الأمين قبل البعثة، اتهموه بعدها بالجنون والسحر والكهانة، وفي هذا انقلاب للموازين البشرية لدى كفار قريش، فما زال صادقًا أمينًا عليه الصلاة والسلام، فلماذا يُرمى بالسحر والجنون وهو يتلو عليهم كلام الله عز وجل الذي يعرفونه بلغتهم وبلاغتهم؟ ذلك لأنه عاب آلهتهم، وأوضح ما هم عليه من الباطل، وإذا كان ذلك بالنبي عليه الصلاة والسلام فكذلك سيتهمون المؤمنين به؛ ولذلك قال الله عز وجل عنهم: ﴿ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ﴾ [المطففين: 32]؛ لكن الله عز وجل تولى الدفاع عن نبيه عليه الصلاة والسلام، وعن المؤمنين رضي الله عنهم من تهم هؤلاء الكافرين، وجعل الغلبة للمؤمنين، وأمضى أمره عز وجل ونصر نبيه والمؤمنين.
الأسلوب الثاني الذي واجهت به قريش الدعوة:السخرية والاستهزاء، فقد كان كفار قريش قد سلكوا سياسة السخرية والاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين به، وفعلوا في ذلك الأفاعيل، وقالوا الأقاويل؛ ولكن الله عز وجل حافظ نبيه ودينه وعباده، فكل أقوالهم وأفعالهم قد رجعت عليهم بحمد الله عز وجل؛ فقد كانوا يسمون النبي صلى الله عليه وسلم مذممًا بدل محمد، وقد جاء عند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا تعجبون كيف صرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذممًا، ويلعنون مذممًا، وأنا محمد؟!))؛ رواه البخاري، وقال الله عنهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴾ [المطففين: 29، 30]، وكان أبو لهب وزوجته يضعون القذر والشوك في طريقه، وكان أبو لهب يتبعه في الأسواق ويكذبه، وأيضًا وضعوا سلا جزور بني فلان ودمها وفرثها عليه وهو يصلي صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من أفعالهم القبيحة، يستهزئون بنبي الرحمة والهدى عليه الصلاة والسلام، ولله الحكمة البالغة في ذلك؛ ولكنه صلى الله عليه وسلم يرد عليهم بالدعاء عليهم، وبيان الحق المنزل.
الأسلوب الثالث الذي واجهت به قريش الدعوة: التشويش على القرآن، وسبه وسب من أنزله؛ حيث قال الله عز وجل عنهم: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26]، وكان من حكمة الله عز وجل أن أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا ﴾ [الإسراء: 110]، وذلك درءًا لسب المشركين للقرآن ومن أنزله، وكذلك عندما تنادوا فيما بينهم بعدم الإيمان بالقرآن، فقد قال الله عز وجل عنهم: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ [سبأ: 31]، ومن الغريب أن بعضهم يعلم أن القرآن حق، ومن أدلة ذلك ما قاله الوليد بن المغيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن لقوله لحلاوة إلى آخر ما قال، وأيضًا كما قال عتبة بن ربيعة عندما سمع صدر سورة فصلت قال: والله ليس هذا بسحر، ولا كهانة، ولا شعر، فهم يعرفون أن هذا هو الحق؛ ولكنهم يعاندون، وعندما يسمعونه يتلى يدركون منه معاني عظيمة؛ ولكنهم لا يصرحون بها عنادًا أو كبرياء، حيث إن الله عز وجل لم يكتب لهم الهداية.
الأسلوب الرابع مما تواجه به قريش الدعوة: التحريض على النبي صلى الله عليه وسلم، واستعداء القبائل عليه وعلى المؤمنين به؛ ولذلك حاولوا مع عمه أبي طالب- وهو على دينهم- أن يكف ابن أخيه عن دعوته، فقال له أبو طالب: يا ابن أخي، كف عنهم أذاك، فإنهم يقولون ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حينها قولته المشهورة: ((يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري ما تركته حتى يظهره الله، أو أهلك دونه))، فتأثر أبو طالب واستعبر، ثم قال: اذهب، وقل ما أحببتَ، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا، وأما المؤمنون به فاستعدوا عليهم قبائلهم؛ فجعلوا يضايقونهم في أموالهم، ومعايشهم لأجل إيمانهم، وإسلامهم؛ بل ونالهم منهم بعض الأذى والتعذيب الجسدي أحيانًا، وما زادهم ذلك إلا إيمانًا وتثبيتًا لعلمهم أن ذلك في سبيل الله عز وجل.
الأسلوب الخامس لقريش في مواجهة الدعوة: إنهم سلكوا مسلك الترغيب والترهيب، فعرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم المال والجاه والملك، فقالوا: إن كنت تريد مالًا أعطيناك، أو مُلكًا ملكناك، أو جاهًا سودناك علينا، فلما فرغوا قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم صدر سورة فصلت حتى بلغ قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [فصلت: 13]، فقال عتبة بن ربيعة: يا معشر قريش، اتركوا محمدًا وشأنه، فكلامه الذي سمعته ليس شعرًا ولا سحرًا ولا كهانة.
وكان هذا الترغيب يعد مسلكًا لقريش تجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بعد مسلك الترهيب وهو إيذاؤهم للمؤمنين ومن معه، والتضييق عليهم، وربما تعذيبهم، خاصة إذا كانوا ليسوا من علية القوم، فثبت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بتثبيت الله عز وجل لهم، وكان إيمانهم كالجبال الراسيات.
الأسلوب السادس في مواجهة قريش للدعوة: محاولة قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد تجاوزت قريش في عدوانها على النبي عليه الصلاة والسلام حتى فكروا في قتله ليرتاحوا منه؛ ولكن التدبير بيد الله عز وجل، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: اجتمع الملأ من قريش في الحجر، وتعاقدوا باللات والعزى لو قد رأينا محمدًا لقد قمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله، فلما أخبرته فاطمة رضي الله عنها بذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((يا بنية، أرني وضوءًا)) فتوضأ، ثم دخل المسجد عليهم، فلما رأوه قالوا: ها هو ذا، وخفضوا أبصارهم، وسقطت أذقانهم على صدورهم، وعقروا في مجالسهم، ثم أقبل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ قبضة من تراب، وقام على رؤوسهم، وقال: ((شاهت الوجوه))، ثم حصبهم بها، فما أصاب رجلًا منهم من ذلك الحصى حصاة إلا قتل يوم بدر كافرًا.
هذهِ بعض الأساليب التي سلكتها قريش في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته؛ ولكنها كلها باءت بالفشل الذريع، وهكذا عبر الأزمان نشاهد ونقرأ ونسمع أن الحق يعلو ولا يعلى عليه؛ لأن الحق مؤيد من السماء، فمن الذي لديه القدرة في مواجهة الرب العزيز الجليل القوي القادر؛ ولذلك قال الله عز وجل لأكلة الربا: ﴿ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: 279]، فكل من واجه الحق بالحرب والرد فنتيجته محسومة عاجلًا أو آجلًا بالخسران المبين، والهزيمة والسحق والبعد؛ ولهذا قال الله عز وجل عن الكفار في أموالهم: ﴿ فَسَيُنْفِقُونَهَا ﴾ [الأنفال: 36]، ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون؛ لأن الله عز وجل هو المدبر، وهو الذي شرع هذا الدين، والخلق خلقه، والأمر أمره، فكيف يخرج شيء عن مراده، فيا ليت الأعداء يعلمون تلك الحقيقة؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يمشي على خطى توجيهات القرآن الكريم، وهو مع ذلك متوكل على الله عز وجل حق التوكل أنه سينصره؛ لأنه هو الذي بعث، ولا يخرج شيء عن مراده؛ ولهذا كان في سكينة واطمئنان عندما كان في الغار؛ ليقينه الكامل أن الله عز وجل معه، وأن من عاش ذلك الشعور والاستشعار حال الضيق والضنك، فإن الأمر يتسع وينشرح في حقه، والواقع مليء من الشواهد على ذلك لمن آمن، وقوي إيمانه وتوكله، وبعد تلك الأساليب الكثيرة لقريش في مواجهة الدعوة وفشلها الفشل الذريع تضايق المسلمون منها؛ ولكنهم قلة لا يستطيعون حربًا على قريش، ولا مواجهة لها، فجاءت فكرة الهجرة إلى الحبشة، وهذا ما سنعرضه بمشيئة الله عز وجل في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
أما الدروس المستفادة مما سبق فهي كثيرة، ومنها:
الدرس الأول: إن كل عمل من الأعمال يعتريه بعض العقبات، سواءً كان عملًا دعويًّا أو تربويًّا، أو غير ذلك حتى في أعمال الدنيا، فهذه العقبات على صاحبها تذليلها ما أمكن، وليعلم الداعية إلى الله عز وجل أن تلك العقبات تحمل في طياتها الابتلاء له، وكثرة الخير والأجور، وأجره على قدر نصبه؛ ولذلك لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه عز وجل لاقى من العقبات الكؤود الشيء الكثير، وأصحابه كذلك فثبتوا على الحق؛ ولذلك وقفت قريش موقف السخرية والغمز واللمز، والسب والتشويش على القرآن، واستعداء القبائل، وغير ذلك، وهذه عقبات عسيرة، فالموقف تجاه ذلك كله هو الصبر والدعاء والاحتساب، وسلوك مسلك الحكمة في الدعوة، وسيجعل الله بعد عسر يسرًا.
الدرس الثاني: إن انقلاب الموازين هو خلل في التربية، وهذا شأن من زاغ قلبه أو قل إيمانه، وهذا أخذناه من قول قريش عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه صادق أمين، ثم لما أنذرهم انقلبت موازينهم فقالوا: ساحر كذاب، فعلى المسلم أن يلاحظ ذلك في نفسه، فيسير حيث سار الحق ووجد، ولا ينقلب ميزانه ضد الحق ولا لحظة واحدة بسبب ميول نفسي أو داعٍ شيطاني، فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، فليعمل على أن يكون ميزانه في تقييمه للأشياء هو القرآن والسنة.
الدرس الثالث: على الداعية إلى الخير بالحكمة والموعظة الحسنة أنه إذا ناله شيء من السخرية أو الغمز واللمز ونحو ذلك، أن يعلم أن ذلك ليس أمرًا جديدًا، ولا بدعًا من القول، فقد قيل ذلك لصفوة الخلق من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم، فتوطين النفس على ملاقاة مثل ذلك مطلب كبير ليكون زادًا للاستمرار وعدم التوقف؛ ولذلك استهزأت قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم، وسخروا منه وغمزوه وأصحابه وأذوهم؛ لكن كلا الفريقين يعلم في قرارة نفسه من صاحب الحق من الباطل، وإنك لتعجب من أحد الدعاة عندما يأتيه نزر يسير من الأذى أو السخرية، فتراه ضاق بذلك ذرعًا، وربما حجبه ذلك الموقف عن جهودٍ دعوية مماثلة، فيقال لهذا وأمثاله: لك بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قدوة وأسوة، فاقرأ السيرة وتأمل، وربما كان ذلك ابتلاء لك.
الدرس الرابع: مشروعية تعظيم القرآن وإجلاله، ويدخل في ذلك دخولًا أوليًّا تلاوته، والعمل به، والتحاكم إليه، والتأدب بآدابه، والسير على توجيهاته، وذلك ضد عمل المشركين الذين كفروا بهذا القرآن، ولم يؤمنوا به، مع أنهم في قرارة أنفسهم يعلمون أنه حق، كما قال ذلك الوليد بن المغيرة عندما سمع صدر سورة فصلت، وأيضًا قال مثل ذلك عتبة بن ربيعة، فهم يعلمون ذلك؛ لكن الله عز وجل لم يرد لهم الإيمان، فجعل في آذانهم وقرًا، وعلى قلوبهم غلافًا عن قبوله، ولو نظرنا إلى واقعنا لعلمنا أنهم عرب خلص بلغاء كبار، وقد جاء القرآن بما يتوافق مع لغتهم وبلغتهم، فإنكارهم إنكار عناد لا اقتناع، فعلى المسلم عندما يعلم ذلك أن يسأل ربه عز وجل الهداية والثبات عليها، فإن الله عز وجل يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وقال الله تبارك وتعالى: ﴿ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾ [الشورى: 7].
الدرس الخامس: إن الله عز وجل حفظ نبيه عليه الصلاة والسلام من كيد الكفار، وذلك بكفالة عمه أبي طالب له مع أنه كافر وعلى ملتهم؛ ولكن الله عز وجل عندما بعث محمدًا عليه الصلاة والسلام بالحق فقد هيَّأ من يدافع عنه، وهكذا يحفظ الله عز وجل أولياءه والدعاة إليه من كيد المبطلين، وإن نالهم ما نالهم من الأذى، فإن ذلك في موازين أعمالهم، فحفظه لهم في ثباتهم، واستمرارهم وصبرهم على التحمل للدعوة، ونصبها وتعبها، وما فيها، كل ذلك وأمثاله من حفظ الله تعالى لأوليائه والدعاة إليه، فليبشروا خيرًا، والله عز وجل يقول: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19].
الدرس السادس: إن الجزاء من جنس العمل، فكما يعمل الإنسان فإنه يجازى عليه بالمثل؛ إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ، ومأخذ ذلك أن قريشًا عندما فكروا في قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمعوا على ذلك، انتظروا خروجه، فتوضأ عليه الصلاة والسلام، وخرج إليهم حول الكعبة، فألقي عليهم النوم، فحصبهم عليه الصلاة والسلام، بالحصباء فأصابتهم، فما أصابت أحدًا منهم إلا وقتل في معركة بدر كافرًا، فهم لما عزموا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم جازاهم الله تعالى بالمثل، حيث قتلوا في معركة بدر، وهذه سنة إلهية، وفطرة مركوزة؛ أن الجزاء من جنس العمل، فلينظر المسلم في أعماله وأقواله كلها، وليعلم تلك السنة الإلهية، وأنه سيُجازى بمثل ما عمل، فلو تأملنا ذلك كثيرًا لتركنا كثيرًا من الأقوال السيئة، ولأقبلنا على كثير من الأعمال الحسنة؛ تحسبًا للثواب، وهروبًا من العقاب.
الدرس السابع: إن مما يلاقيه المسلم الجديد أو كذلك الداعية إلى الله عز وجل من تعب أو نصب ونحوهما، فهو مأجور عليه بقدر نصبه وتعبه، فعليه أن يتلذذ بالأجر المكتوب له؛ ليزيل الحرج الذي يصيبه، ومأخذ هذا من السيرة أن قريشًا آذت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وحاصرتهم اجتماعيًّا وتجاريًّا، وآذتهم لأجل إسلامهم، وأيضًا لأجل دعوتهم الآخرين إلى الإسلام، فكان موقف الصحابة رضي الله عنهم الثبات والصبر، والتمشي مع التوجيهات النبوية، فهم تناسوا مصابهم في نصبهم وتعبهم بما يحصل لهم من الأجور العظيمة عليه، وهذا شأن المسلم في مثل ذلك.
الدرس الثامن: المؤمن الحق لا يتنازل عن شيء من أمور دينه لأجل دنيا حقيرة، فهو ثابت على مبدئه الإيماني، ومأخذ ذلك أن قريشًا عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم الملك والمال والجاه على أن يتنازل عما هو فيه من الدعوة، فلم يقبل بذلك، فالتنازل عن أمور الدين للدنيا هو من التزعزع والخلل التربوي والإيماني، والمؤمن حيال ذلك يقول: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)).
الدرس التاسع: ليعلم الداعية إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة أن الحق معه، وإن لم يستجب له ذلك المدعو، أو حصل منه عناد أو مكابرة أو أذى، وهذا مما يزيده ثباتًا على الحق والدعوة إليه، ومأخذ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في دعوتهم لكفار قريش بذلوا مساعي عظيمة، فلم يستجب كثير من هؤلاء مع علمهم أنه الحق، فلا ينبغي للداعية أن يتزعزع إذا لم يستجب له، وقد ورد في الأثر الطويل أن النبي يأتي يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، الحديث بطوله متفق عليه، وفي ذلك تعزيز للدعاة إلى الخير إذا كانوا في دعوتهم على مراد الله ورسوله عليه الصلاة والسلام؛ ولكن على الداعية أن يراجع طريقته وأسلوبه، ويعرضهما على الوحيين.
الدرس العاشر: إن مما يعرف في الأذهان أن المخلوق الضعيف قد لا يقاوم المخلوق القوي وكلاهما مخلوق، فكيف إذا أراد المخلوق أن يعاند ويكابر في رد أمر الخالق عز وجل؛ ولذلك كفار قريش عاندوا وكابروا، وردُّوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل وقاتلوه، فهم لا طاقة لهم في حرب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ومن شواهد ذلك ما توعد الله به أكلة الربا فقال: ﴿ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: 279]، فليس أمام الإنسان عمومًا إلا التسليم والإذعان لأمر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فإن خالف ذلك فهو خاسر ومغلوبٌ لا محالة، فإدراك هذا المعنى يجعل الإنسان خاضعًا لأمر الله عز وجل؛ لكن من أراد الله عز وجل إظلاله فلن تجد له وليًّا مرشدًا.
أخي الكريم، إن دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تزيدك علمًا وثباتًا، وأيضًا كذلك ترسم لك منهجًا قويمًا، وتجعلك مطمئنًّا في سيرك إلى الله عز وجل والدار الآخرة، حيث إنك تقرأ تلك المواقف، وتستنتج منها الدروس والأحكام، فهي جمعت بين النواحي التربوية والإيمانية والاجتماعية والعلمية وغيرها، وهذا مما يجعلها الرسالة الحقة من الله عز وجل، فما أجمل أن يكون لنا في بيوتنا ومع أولادنا دروسًا في هذا الجانب! إن هذا مما يشرح الصدور، وينور القلوب، ويصحح التصورات، ويضبط الموازين، فكثير من مشاكل العصر حلها يكمن في دراسة هذه السيرة.
اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، وأوصلنا إلى دار السلام بسلام، واجعلنا ممن يؤتى الحكمة يا حي يا قيوم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|