مختصر تفسير القرآن تدبر وعمل لسورة البقرة (146- 153)
قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 146 - 153].
الوقفات التدبرية:
١- ﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾:
حتى عباد الدنيا والملحدون ومن ليس لهم قبلة يصلون إليها لهم وجهة يولُّون قلوبهم وأبدانهم إليها، فالعبودية صفة لازمة للخلق لا ينفك عنها أحد، فمن وُفِّقَ لعبادة الله تعالى أصاب الخير والشرف والعز، ومن عَبد غيره ذَلَّ وَصَغُرَ وهان، ﴿ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [الحج: 18]؛ [المالكي].
٢ – ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾:
من سبق في الدنيا إلى الخيرات فهو السابق في الآخرة إلى الجنات؛ فالسابقون أعلى الخلق درجة، والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل، من صلاة، وصيام، وزكوات وحج، وعمرة، وجهاد، ونفع متعد وقاصر... ويستدل بهذه الآية الشريفة على الإتيان بكل فضيلة يتصف بها العمل؛ كالصلاة في أول وقتها، والمبادرة إلى إبراء الذمة من الصيام، والحج، والعمرة، وإخراج الزكاة، والإتيان بسنن العبادات وآدابها؛ فلله ما أجمعها وأنفعها من آية! [السعدي].
٣- ﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ﴾:
من التفت بقلبه في صلاته إلى غير ربه لم تنفعه وجهة بدنه إلى الكعبة؛ لأن ذلك حكم حق، حقيقته توجه القلب، ومن التفت بقلبه إلى شيء من الخلق في صلاته فهو مثل الذي استدبر بوجهه عن شطر قبلته؛ [البقاعي].
٤- ﴿ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾:
فحاظفوا على [وظائفكم وأعمالكم الصالحة] أيها المؤمنون، وأطيعوا الله تعالى في كل ما يأمركم به، وينهاكم عنه؛ لأنه سبحانه ليس بساهٍ عن أعمالكم، ولا بغافل عنها، ولكنه محصيها عليكم، وسيجازيكم الجزاء الذي تستحقونه عليها يوم القيامة؛ [طنطاوي].
٥- ﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾:
تَكَرَّرَ الأمْرُ بِاسْتِقْبالِ [النَّبِيِّ] الكَعْبَةَ ثَلاثَ مَرّاتٍ، وتَكَرَّرَ الأمْرُ بِاسْتِقْبالِ المُسْلِمِينَ الكَعْبَةَ مَرَّتَيْنِ، وتَكَرَّرَ إنَّهُ الحَقُّ ثَلاثَ مَرّاتٍ، وتَكَرَّرَ تَعْمِيمُ الجِهاتِ ثَلاثَ مَرّاتٍ، والقَصْدُ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ اسْتِقْبالِ الكَعْبَةِ، والتَّحْذِيرُ مِن تَطَرُّقِ التَّساهُلِ في ذَلِكَ تَقْرِيرًا لِلْحَقِّ في نُفُوسِ المُسْلِمِينَ، وزِيادَةً في الرَّدِّ عَلى المُنْكِرِينَ؛ [ابن عاشور].
٦- ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾:
لكل ذكر خاصيته وثمرته:
• وأما التهليل فثمرته التوحيد؛ أعني: التوحيد الخاص؛ فإنَّ التوحيد العام حاصل لكل مؤمن.
• وأما التكبير فثمرته التعظيم والإجلال لذي الجلال.
• وأما الحمد والأسماء التي معناها الإحسان والرحمة- كالرحمن، والرحيم، والكريم، والغفار، وشبه ذلك- فثمرتها ثلاث مقامات؛ وهي: الشكر، وقوة الرجاء، والمحبة؛ فإنَّ المحسن محبوب لا محالة.
• وأما الأسماء التي معناها الاطلاع والإدراك-كالعليم، والسميع، والبصير، والقريب، وشبه ذلك- فثمرتها المراقبة.
• وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فثمرتها شدَّة المحبة فيه، والمحافظة على اتِّباع سنته.
• وأما الاستغفار فثمرته الاستقامة على التقوى، والمحافظة على شروط التوبة مع [انكسار] القلب بسبب الذنوب المتقدِّمة؛ [ابن جزي].
٧- ﴿ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾.
لما فرغ تعالى من بيان الأمر بالشكر؛ شرع في بيان الصبر والإرشاد [للاستعانة] بالصبر والصلاة؛ فإن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكر عليها، أو في نقمة فيصبر عليها؛ [ابن كثير].
٨- ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ﴾:
أمر تعالى بالاستعانة بالصلاة؛ لأن الصلاة هي عماد الدين، ونور المؤمنين، وهي الصلة بين العبد وبين ربه، فإذا كانت صلاة العبد صلاة كاملة، مجتمعًا فيها ما يَلزم فيها، وما يُسن، وحصل فيها حضور القلب، الذي هو لبُّها فصار العبد إذا دخل فيها، استشعر دخوله على ربه، ووقوفه بين يديه، موقف العبد الخادم المتأدب، مستحضرًا لكل ما يقوله وما يفعله، مستغرقًا بمناجاة ربه ودعائه، لا جرم أن هذه الصلاة، من أكبر المعونة على جميع الأمور؛ فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولأن هذا الحضور الذي يكون في الصلاة، يوجب للعبد في قلبه وصفًا وداعيًا يدعوه إلى امتثال أوامر ربه، واجتناب نواهيه؛ هذه هي الصلاة التي أمر الله أن نستعين بها على كل شيء؛ [السعدي].
٩- ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾:
هذه معية خاصة، تقتضي محبته ومعونته، ونصره وقربه، وهذه منقبة عظيمة للصابرين؛ فلو لم يكن للصابرين فضيلة إلا أنهم فازوا بهذه المعية من الله لكفى بها فضلًا وشرفًا؛ [السعدي].
التوجيهات:
١- من اكتفى بالحد الأدنى من فعل الخيرات فقد يضعف نشاطه إلى حد العجز والكسل، ومن ألزم نفسه بسباق غيره ثبت وزادت منزلته عند ربه، ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾.
٢- لا يظن العبد أنه يستطيع الهرب من قدرة الله بالأسباب التي يفعلها؛ فالله تعالى قادر عليه على كل حال، وفي كل مكان، ﴿ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
٣- من أعظم ما يعين العبد على حوائج الدنيا والآخرة: الصبر والصلاة،﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ﴾.
العمل بالآيات:
١- سابق اليوم إلى الصف الأول، أو كن أول من يتصدق بصدقة، أو أول من يقرأ قرآنًا؛ فإن للسابقين منزلة ليست لغيرهم، ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾.
٢- قل: رب زدني زكاة وعلمًا وحكمة، ﴿ وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾.
٣- حافظ على أذكار الصباح والمساء والنوم، وعلمها غيرك، ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾.
معاني الكلمات:
﴿ الْمُمْتَرِينَ ﴾: الشَّاكِّينَ.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|