فوائد وأحكام من قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِ
1- تصدير الخطاب بالنداء، للتنبيه والعناية والاهتمام؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾.
2- نداء المؤمنين بوصف الإيمان تكريمًا وتشريفًا لهم.
3- في نداء المؤمنين بوصف الإيمان، حث على الاتصاف بهذا الوصف، وعلى امتثال ما بعده من أوامر ونواه، وأن امتثال ذلك من مقتضيات الإيمان، وعدمه يعد نقصًا في الإيمان.
4- وجوب القصاص بقتل القاتل عمدًا بمن قتله، وأن يُفعل به كما فعل بالمقتول؛ من حيث صفة القتل وآلته، حتى لو اشترك جماعة في قتل واحد، وجب قتلهم به؛ لقوله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾، والخطاب للمؤمنين، والمراد بذلك حكامهم.
5- أن الحر يقاد ويقتل قصاصًا بالحر؛ لقوله تعالى: ﴿ الحر بالحر ﴾، ومفهوم هذا أن الحر لا يقتل بالعبد، وإلى هذا ذهب كثير من أهل العلم، مستدلين بمفهوم هذه الآية، وبأن العبد يباع ويشترى كالسلعة، فكيف يساوَى بالحر، وغير ذلك من الأدلة التي لا يسلم منها دليلٌ واحد، أو يصح على ما ادَّعَوْه.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الحر يقتل بالعبد مستدلين بأدلة كثيرة؛ منها:
أ- قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾، قالوا: فيجب القصاص من القاتل أيًّا كان، قالوا: وأما قوله في الآية بعد ذلك: ﴿ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى ﴾، فهذا للرد على أهل الجاهلية؛ حيث كانوا يقتلون بالحر أحرارًا، وبالعبد حرًّا، وبالأنثى ذكرًا.
ب- قوله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 179]، وهذا عام.
جـ- قوله تعالى: ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ [المائدة: 45]، وهذا عام في كل نفس.
د- قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ﴾ [الإسراء: 33]، وهذا عام في كل مقتول وفي كل قاتل.
هـ- قوله تعالى: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 194]، وهذا عام أيضًا.
و- قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126].
ز- قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس،...»[1]، وهذا عام في كل نفس.
ح- قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم»[2]، وهذا القول هو الراجح لقوة أدلته.
6- أن العبد يقتل بالعبد؛ لقوله تعالى: ﴿ والبعد بالعبد ﴾، وإذا كان العبد يقتل بالعبد، فقتلُه بالحر من باب أولى.
7- أن الأنثى تقتل بالأنثى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى ﴾، وإذا كانت الأنثى تقتل بالأنثى، فقتلُها بالذكر من باب أَولى.
وإنما جاءت الآية على هذا النسق ﴿ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى ﴾، لما جاء في سبب النزول، أنهم كانوا يعتدون في القصاص، فيقتلون بالعبد حرًّا، وبالأنثى ذكرًا، ولو كان غير القاتل.
واختلف في قتل الذكر بالأنثى، والصحيح أن الذكر يقتل بالأنثى، للأدلة السابقة في قتل الحر بالعبد، ولما جاء في حديث أنس رضي الله عنه: «أن يهوديًّا رضَّ رأس جارية بين حجرين، فاعترف، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فرض رأسه بين حجرين»[3]، وقد حكى القرطبي الإجماع على قتل الذكر بالأنثى[4].
8- جواز العفو عن القصاص إلى الدية، تخفيفًا من الله عز وجل على هذه الأمة، ورحمة لها؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ﴾، كما يجوز العفو عن القصاص بلا دِية؛ قال تعالى: ﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [البقرة: 237]، وقال تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40].
9- إذا عفا ورثة المقتول أو بعضهم، ولو واحدًا، سقط القصاص؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ﴾، وشيء نكرة في سياق الشرط تعم أي شيء، قليلًا كان أو كثيرًا.
10- أن القاتل عمدًا لا يخرج بالقتل عن الإيمان، ولا تزول الأخوة الإيمانية بينه وبين المقتول؛ لقوله: ﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ﴾، علمًا أن القتل العمد من أكبر الكبائر، بل يعد أكبرها عند أكثر أهل العلم.
وفي هذا رد على الخوارج والمعتزلة الذين يقولون: إن مرتكب الكبيرة خارج من الإيمان، مخلد في النار، وإذا كان القاتل عمدًا لا يخرج بالقتل من الإيمان، فما دونه من باب أولى.
11- أن دية القتل العمد على القاتل؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ ﴾؛ يعني القاتل.
12- أن دية القتل العمد حسب ما اتفق عليه بين ورثة المقتول والقاتل؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ﴾، ولو اختار القاتل القصاص على الدية فله ذلك.
13- يجب على ولي المقتول إذا عفا عن القصاص إلى الدية أن يتَّبع القاتل ويطالبه بالدية بالمعروف، من غير أن يشق عليه، أو يكلفه ما لا يطيق، أو يمن عليه بعفوه عنه، عن القصاص إلى الدية، أو يؤذيه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾.
14- يجب على القاتل أداء الدية إلى أولياء المقتول بإحسان فعلي، بعدم المماطلة والمضارة لهم، وإحسان قولي، بشكرهم والدعاء لهم، مقابل عفوهم عن القصاص منه، واتباعهم له بالمعروف؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ﴾.
15- فضل الله عز وجل ونعمته على هذه الأمة بشرع العفو عن القصاص، وأخذ الدية تخفيفًا على هذه الأمة ورحمة بها؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ﴾.
16- إثبات ربوبية الله عز وجل الخاصة بالمؤمنين، ورحمته الخاصة بهم؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ﴾.
17- يُسر هذه الشريعة المحمدية بين الشرائع السابقة وتخفيف أحكامها.
18- الترغيب في العفو عن القصاص إلى الدية؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ﴾، ففي هذا ترقيق وحث على العفو إلى الدية، ولقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ﴾، فهو رخصة من الله، وتخفيف ورحمة للأمة، يندب الأخذ به، وأفضل من ذلك العفو بلا مقابل.
19- الوعيد الشديد لمن اعتدى على القاتل، فقتله بعد عفوه عنه إلى الدية بالعذاب المؤلم الموجع، حسيًّا للبدن، ومعنويًّا للقلب في الآخرة، مع ما يترتب عليه من العقوبة الدنيوية، من القصاص أو غيره؛ لما في هذا من الخيانة، ونقض العهد، والعود في الهبة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
وهذا الوعيد يشمل أيضًا القاتل الذي يعود إلى الاعتداء والقتل بعد العفو عنه.
20- حكمة الله عز وجل البالغة العظيمة في مشروعية القصاص، لما فيه من صون الأنفس المعصومة، وسلامتها من القتل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾، وهذا أبلغ من قولهم: «القتل أنفى للقتل».
21- حفظ الدين الإسلامي للأنفس والأرواح؛ لأنها إحدى الضرورات الخمس التي جاء الإسلام بالحفاظ عليها، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال.
22- سمو مبادئ الإسلام وأحكامه وتشريعاته، مما تتهاوى أمامه وتضعف جميع النظم والقوانين الأرضية الوضعية الوضيعة التي تتعاطف مع القاتل المجرم، وتمنع قتله، وتَعُدُّه من الهمجية، فترحم القاتل، ولا ترحم المجتمع، أمام شرور أهل السطو والقتل والإجرام، وترى في عقوبة السجن كفاية، مما جعل السجون تغص بالمجرمين والقتلة، واللصوص، ويستشري شرهم وبلاؤهم في المجتمعات التي لا تدين بالإسلام، أو لا تطبق شرع الله.
23- أن الذين يفقهون ويعقلون عن الله عز وجل شرعه وأحكامه، ويعلمون أن لله عز وجل الحكمة البالغة العظيمة في مشروعية القصاص، هم أصحاب العقول والنهى، ولهذا خصهم دون غيرهم، وفي هذا ثناء من الله عز وجل عليهم، وامتداح لهم، وكفاهم بذلك شرفًا وفخرًا؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾.
24- أن الله عز وجل شرع القصاص، وأوجبه على العباد ليتقوه، فلا يقتل بعضهم بعضًا، ولا يرتكبوا ما نهاهم عنه، وليمتثلوا أوامره؛ لقوله تعالى: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|