سـبب النـزول قوله تعالى: {﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ
تفسير قوله تعالى: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 142، 143].
كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة إذا صلى صلى إلى بيت المقدس، وجعل الكعبة بين يديه، فلما هاجر إلى المدينة صلى ستة عشر، أو سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس، وكان صلى الله عليه وسلم يحب أن يصلي إلى البيت الحرام قبلة إبراهيم- عليه السلام- والأنبياء بعده، وكان يقلب وجهه في السماء داعياً الله- عز وجل- أن يأمره بالتولي نحو هذا البيت، وقد استجاب الله- عز وجل- له فأمره صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالتولي شطر المسجد الحرام. ولما كان هذا الحدث من أعظم الوقائع في الإسلام بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم، قدَّم له- عز وجل- توطئة وتمهيداً، وتقريراً له- بعدة مقدمات من أهمها ما يلي:
أولاً: ذكر طبيعة وحال بني إسرائيل، وما هم عليه من الكفر والتكذيب، واشترائهم بآيات الله ثمناً قليلاً، ولبس الحق بالباطل، وكتمان الحق، والشرك والظلم، والتمرد والعناد، والتعنت في سؤال أنبيائهم، وتبديل قول الله، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، وتوليهم وإعراضهم بعد أخذ الميثاق عليهم، واعتدائهم، وتحريفهم وافترائهم الكذب على الله، وزعمهم أنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة، وقتل بعضهم لبعض، وإخراجهم فريقاً منهم من ديارهم إثماً وعدواناً، وشرائهم الحياة الدنيا بالآخرة، واستكبارهم، وتكذيبهم الرسل والأنبياء وقتل فريق منهم، وكفرهم بما أنزل الله مصدقاً لما معهم، وقولهم: سمعنا وعصينا، وحبهم عبادة العجل، وحرصهم على الحياة، ونقضهم العهود، ونبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، واتباعهم ما تتلوا الشياطين والسحرة على ملك سليمان، وكراهيتهم أن يُنزَّل على المؤمنين خير من ربهم، ومودتهم رد المؤمنين من بعد إيمانهم كفاراً حسداً من عند أنفسهم، وزعمهم الباطل أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارىٰ، وتكذيب بعضهم لبعض، ومنعهم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، والسعي في خرابها، ونسبتهم الولد إلى الله- تعالى الله عن ذلك- وعدم رضاهم إلا باتباع ملّتهم، وقولهم: ﴿ كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ﴾[البقرة: 135]، وشقاقهم وظلمهم، وكتمانهم ما عندهم من الشهادة في كتبهم من الله- على صدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك.
ثانياً: تحذير المؤمنين من مسلك أهل الكتاب، في كفرهم، وتكذيبهم، وتعنتهم في سؤال أنبيائهم، والتحذير من طاعتهم، لكراهتهم الخير للمؤمنين، ومودتهم إرجاعهم بعد إيمانهم كفاراً وحسدهم لهم.
ثالثاً: تقرير النسخ، وأنه- عز وجل- ما ينسخ من آية إلا يأتي بخير منها أو مثلها.
رابعاً: تقرير أن لله عز وجل المشرق والمغرب، وأن العباد أينما تولوا فثم وجه الله.
خامساً: الثناء على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وتعظيم ملّته، وإعلان إمامته للناس، وإتمامه ما ابتلاه الله به من الكلمات، ووفاؤه، وإيجاب اتباع ملته، وتسفيه من يرغب عنها.
سادساً: الامتنان على هذه الأمة بجعل البيت الحرام مثابة للناس وأمناً، ورفع إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام- لقواعده، وتطهيره للطائفين، والعاكفين والركع السجود، وتأكيد عظمته وحرمته، وشرفه وفضله.
إلى غير ذلك.
ثم بعد هذه المقدمات أعلمهم- عز وجل- بما سيقول السفهاء من الناس من أهل الكتاب وغيرهم، لئلا يفاجؤوا في ذلك فيعظم عليهم ذلك، مؤكداً أن لله- عز وجل- المشرق والمغرب... إلخ.
سـبب النـزول:
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لما صرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة، وصرفت في رجب على رأس سبعة عشر شهراً من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفاعة بن قيس في جماعة ذكرهم، فقالوا له: يا محمد، ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها، وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه، ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك. وإنما يريدون فتنته عن دينه، فأنزل الله فيهم: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ إلى قوله: ﴿ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﮆ ﴾"[1].
وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت، فأنزل الله: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ﴾ [البقرة: 144] وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن صلى معه، فمر على أهل المسجد، وهم راكعون، فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم- قِبَل مكة، فداروا كما هم قِبَل البيت، وكان الذي مات على القبلة قَبْل أن تحول قِبَلَ البيت رجالاً قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾"[2].
وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم، فكان يدعو الله، وينظر إلى السماء، فأنزل الله عز وجل: ﴿ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: 144]، أي: نحوه، فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ﴿ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾؟ فأنزل الله: ﴿ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾".
وفي رواية عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: "فكان أول ما نسخ الله- عز وجل- من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، أمره الله- جل وعز- أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود بذلك، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً، فكان يدعو الله- جل وعز- وينظر إلى السماء، فأنزل الله جل وعز: ﴿ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: 144]، يعني: نحوه، فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ﴿ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ [البقرة: 142]. فأنزل الله- جل وعز: ﴿ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾ [البقرة: 142]، وقال: ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 115]، وقال جل وعز: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ [البقرة: 143]. قال ابن عباس: ليتميز أهل اليقين من أهل الشك والريبة"[3].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|