الحمد لله رب العالمين، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله ربُّه بين يدي الساعة هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وكمالاته النفسية، ما يغنيه عن كل خارقة تأتيه من السماء أو الأرض أو البر أو البحر، فإن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم كانت عظيمة، جمعت قلوب الناس إليه، ففي صدقه وفي أمانته وفي عدله وعفافه، وتواضعه وحلمه، وكرمه ونجدته، وبسالته وشجاعته - ما يجمع قلوب الناس إليه أكثر من المعجزات الحسية التي رأوها في حياته صلى الله عليه وسلم، لكن لَمَّا كانت المعجزات الحسية من لوازم الرسالات السماوية؛ لأنها قائمة مقام قول الله عز وجل صدق عبدي فيما بلغ عني، لهذا وقعت كما أراد الله في الوقت الذي شاء سبحانه.
فإذا ما أردنا أن نتكلم حول إحدى هذه المعجزات، وهي معجزة الإسراء والمعراج، فإننا نقول:
إن الإنسان قصير النظر، ينظر إلى الحاضر القريب، ويغفل عن الغائب البعيد، يحس بالألم الحالي، ويغفل عما يعقب الألم من راحة وأجر عظيم.
لولا آلام المخاض ما كانت ولادة فلذات الأكباد، ولولا مكابدة الساعات في طلب العلم، لَما كانت الفرحة بالنجاح العظيم، ولولا النار التي صهرت الذهب، لما صفى من كدره وشوائبه، ولما صار ذا لمعان يخطف الأبصار ويسرُّ الناظرين، لولا المحن لما كانت المنح، وراء كل محنة منحة، وتحت كل بلاء عظيم إنعام جليل من الله عز وجل ينتظر الصابرين.
لقد مرت بالنبي صلى الله عليه وسلم ساعات لو مرت بالجبال لأهاضتها، أو بالصخور الصلبة لصارت كثيبًا مهيلا، لكن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من هذه المحن أصلبَ عودًا، وأقوى شكيمةً، وأقدر على تحمُّل المصائب والآلام.
في السنة العاشرة من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، توالت المحن وكأنها على موعد، تأتى يتبع بعضها بعضًا، يرقِّق آخرها أولها، وآخرها أشدُّ من أولها.
ابتُلي النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السنة بابتلاءات متعددة، فمن خروج من حصار غاشم، عانى فيه أصحاب رسول الله وأقرباؤه من بنى هاشم الأمرَّين من جوع وبرد ومرض، حتى كان يُسمَعُ أنينُهم من فم الشِّعب.
لقد كانت المعاناة شديدة، حتى إن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يحدِّثنا عن بعض ما عانوه في هذا الحصار الغاشم، فيقول: خرجت ذات ليلة أقضي حاجتي، فسمعت قعقعة تحت البول، فتنحيت غير بعيد، فقضيت حاجتي، ثم عدت إلى مكاني، فبحثت فإذا قطعة من جلد بعير يابسة، فأخذتها فغسلتها، ثم أحرقتها ورضضتها بالماء، فتقويت بها ثلاثة أيام؛ أي أمر هذا؟
يأكل جلد بعير يابس يجده تحت بوله؟ ألم يتقذَّره؟ ألم تُنازعه نفسه وتُجاذبه أنفتُه؟ لا، إنما تفعل ذلك النفوس المترفة التي تجد ما يغنيها عما تتقذَّره، لكن النفوس التي عضَّها كلبُ الجوع، وهدَّتها الحاجة إلى الطعام، أي طعام، لا مكان عندها لشيء لا يروقها، بل كل ما تجده تقبله؛ لأنها لو لم تقبله لماتت جوعًا، والطعام الذي تعافه النفس خير من التلوي من ألم الجوع، والنفس تصبر على ما تكره؛ لأنها تعلم أنها لو لم تصبر عليه، لذاقت أمرَّ منه، إنها مساومات النفس في بحثها عما يحفظ عليها حياتها.
لقد صبر النبي صلى الله عليه وسلم وصبر معه أصحابه على أمرَّ من الصبر، حتى قدَّر الله عز وجل لهم أن يخرجوا من الحصار، من هذا البلاء العظيم، والمحنة المهلكة، فهل خرجوا ليجدوا الفُرش الممهدة؟ والراحة والنعيم؟ هل خرجوا من حصار قاس كاد يأتي عليهم جميعًا إلى ظل وارف ونعيم مقيم؟ لا، بل خرجوا ليفاجَأ النبي صلى الله عليه وسلم بمصائب أعظم وابتلاءات أشد، إنها أعظم المصائب التي يصاب بها المرؤ في دنياه، فَقْدُ الزوجة التي كانت نعم السند ونعم النصير، إنها خديجة، أعظم امرأة في التاريخ البشري كله، لا شبيه لها في دنيا النساء، ساندته منذ اللحظة الأولى للبعثة المباركة، لما جاءها خائفًا يرجف فؤاده يقول: زملوني زملوني، غطته حتى ذهب عنه الروع، ثم سألته عما رأى، ثم طمأنت فؤاده لما قال لها: لقد خشيت على نفسي، قالت: كلا والله لا يُخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتقري الضيف, وتعين على نوائب الدهر، ولم تكتف بهذا بل أتت به ورقة بن نوفل؛ ليصب الطمأنينة في قلبه الشريف صبًّا، تلكم هي خديجة.
خديجة التي أوقفت مالها كله على النبي صلى الله عليه وسلم.
خديجة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يغيب عنها، يتعبد في غار حراء، فيمكث الليالي ذوات العدد، وحينما يرجع لا يرجع ليقيم، وإنما ليتزود للعودة، فلا يجد منها عبوسًا، ولا حتى أدنى معاتبة على تركه بيته وأولاده، بل تجهزه ليرجع إلى الغار ليتعبد كما كان يتعبد، أيوجد مثل هذه بين النساء؟ هل جاد التاريخ أو سيجود بمثلها؟
هيهات أن يجود الزمان بمثلها *** إن الزمان بمثلها لبخيل
فعلى مثل خديجة تبكي البواكي.. على فقدها تظلم الدنيا، وبفقْدها يُصبح حلوُ الحياة مرًّا
ونورها ظلامًا، وفرحها كدرًا.
ثم تأتي المصيبة الأخرى وهي ليست أقل من الأولى، إنها مصيبة موت أبي طالب الذي كان نعم النصير البشري للنبي صلى الله عليه وسلم.
أبو طالب الذي كان يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم على رغم مخالفته له في العقيدة.
أبو طالب الذي دخل مع النبي في الحصار، مع علمه بأن الحصار ربما يكون فيه الهلكة.
أبو طالب الذي كان يؤثر رسول الله على أبنائه، ويفدي رسول الله بأبنائه.
نعم، كان يفدي رسول الله بأبنائه، هل سمعتم بأحد يفدي أحدًا بولده؟ هذا كلام كأنه آت من الخيال، لولا أن العلماء الثقات حدثوا به لعُد ضربًا من تهويلات الشعراء، أو من نسج الخيال، يُحدثنا علماء السير، فيقولون: كان أبو طالب في الشعب يفرش للنبي صلى الله عليه وسلم فراشه، فينام النبي صلى الله عليه وسلم أول الليل، فإذا نام الناس، أمر أبو طالب أحد أبنائه أن ينام مكان النبي صلى الله عليه وسلم، وينيم النبي مكانه، حتى إذا كان هناك من يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، سيأتي إلى حيث رآه نائمًا أول الليل، فإن وقع منه أذى أصيب ولد أبي طالب، ولا يصاب النبي صلى الله عليه وسلم.
هل رأى الناس مثل هذا؟
وهل سمع التاريخ مثل ذلك؟
معلوم يقينًا أن الولد أحب من النفس.
لكن أبا طالب يقول بلسان حاله: محمد أحبُّ إلى من نفسي، ومما هو أحب إلى من نفسي.
لقد كان أبو طالب لا ينام الليل في الشِّعب أبدًا، إنما يظل طيلة الليل ومعه شباب بني هاشم يحرسون الشعب طيلة الليل.
أرأيتم فعل أبي طالب؟
أسمعتم شعره في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
أليس هو القائل:
وَاللَهِ لَن يَصِلوا إِلَيكَ بِجَمعِهِم
حَتَّى أُوَسَّدَ في التُّرابِ دَفينَا
فَاِصدَع بِأَمرِكَ ما عَلَيكَ غَضاضَةٌ
وَأبْشِر بِذاكَ وَقَرَّ مِنهُ عُيونَا
ما أجملها من أبيات، وما أصدق المشاعر التي تتدفق منها، أي رجل كان أبو طالب؟
إنه الرجل الذي سخر كل طاقاته للدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم.
إنه الرجل الذي لم تصل قريش في حياته إلى النبي صلى الله عليه وسلم بسوء.
إنه الرجل الذي لم تنل قريش من النبي شيئًا يكرهه في حياته.
على مثل هذا حين يموت يُذرف ماء العيون، وينفذ ماء الشؤون.
وقد كان.
مات أبو طالب، والمصائب لا تأتي فرادى، ويا ليت الأمر وقف إلى هذا الحد، بل ما زال في الجَعبة بعضُ السهام، يخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ليعرض عليهم دين الله، فيردون عليه ردًّا منكرًا، ويغرون به سفهاءهم، حتى وقفوا له سماطين، ورموه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين، حتى حُفر هذا اليوم في ذاكرة النبي صلى الله عليه وسلم كأشد يوم مر بالنبي صلى الله عليه وسلم.
تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل مر عليك يوم أشد عليك من يوم أحد؟ فَقالَ: لقَدْ لَقِيتُ مِن قَوْمِكِ وَكانَ أَشَدَّ ما لَقِيتُ منهمْ يَومَ العَقَبَةِ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي علَى ابْنِ عبدِيَالِيلَ بنِ عبدِكُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إلى ما أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ علَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلَّا بقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بسَحَابَةٍ قدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَما رُدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بما شِئْتَ فيهم، قالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ، إنَّ اللَّهَ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بأَمْرِكَ، فَما شِئْتَ، إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخْشَبَيْنِ، فَقالَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أَصْلَابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئًا.
هذه المحن والابتلاءات المتتالية نزلت على قلب النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهو صابر متماسك دون صبره ثبات الجبال، حتى أراد الله عز وجل أن يكافئ النبي بصبره، ويهبه المنحة لتمحو أثر المحنة، فكانت الرحلة المباركة: رحلة الإسراء والمعراج.
فبعد أن عصرت الأحداث الجسام قلبَ النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، شاء الله عز وجل أن يكافئ النبي صلى الله عليه وسلم بصبره، وينوِّه للعالمين عن عظيم شرفه وعلو قدره، فكانت الرحلة المباركة رحلة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى تلكم الرحلة التي بيَّنت مكانة النبي صلى الله عليه وسلم، وحبَّ ربِّه سبحانه له.
تلكم الرحلة الشريفة التي لم تكن معجزة خاصة بالرسالة، ولا خاصة بالمرسل إليهم، إنما كانت معجزة خاصة بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فهي لم تكن معجزة خاصة بالرسالة؛ لأن معجزة الرسالة موجودة، ألا وهي القرآن العظيم، وقد بيَّن النبي ذلك، فقال: ما من الأنبياء نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمَن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلى، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة؛ (رواه البخاري ومسلم).
فمعجزة الرسالة هي القرآن، ولم تكن الرحلة المباركة معجزة للقوم الذين أرسل إليهم؛ لأنها لو كانت معجزة للقوم الذين أرسل إليهم النبي، لكان مطلوبًا أن يشاهدوها، ولكن القوم لم يشاهدوها، إذًا فهي ليست موجَّهة إليهم، ولأن الله عز وجل يعلم أنهم لو رأوها فلن يؤمنوا، ألم ينقل الله عز وجل لنا قولهم للنبي صلوات الله وسلامه عليه: ﴿أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ ﴾ [الإسراء: 93].
فهم لو رَقِيَ النبي إلى السماوات العلا، فلن يؤمنوا لمجرد رُقيه، وإنما لا بد أن ينزل عليهم كتابًا ليقرؤوه، إذا كان الله عزوجل ذكر عنهم أنهم لو وقع لهم المعراج، فصعدوا إلى السماء، فلن يؤمنوا؛ قال تعالى: ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ﴾ [الحجر: 14، 15].
فإذا كان المعراج لو وقع لهم هم وليس للنبي، فلن يؤمنوا، إذًا لم تكن معجزة الإسراء والمعراج معجزة موجهة للقوم الذين أرسل إليهم النبي صلوات الله وسلامه عليه، وإنما كانت معجزة خاصة بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فكانت منحة من الرب العلي للحبيب النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ألم يقل الله عز وجل: ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ﴾ [الإسراء: 1].
فكان الإسراء والمعراج منحة خالصة، ليس لها شأن في الدعوة، ولا في المدعوين، بقدر ما هي تشريف وتعظيم لقدر النبي، وبيان مكانته عند الرب العلي.
لقد أبانت رحلة الإسراء والمعراج عن قدر النبي عند ربه، فالله عز وجل يرسل إليه أعظم ملائكته، وهو جبريل عليه السلام، ويرسل إليه الدابة التي ستحمله وهي البراق، وكان في قدرة الله أن يحمل النبي بغير براق، لكن هكذا جرت عادة الملوك، إذا أرادوا تشريف من يرسلون إليه يرسلون إليه بالسيارة التي سيأتي بها، لتكون دليلًا على تعظيمهم له، وليعلم غيرهم مكانته عندهم، ثم يصلي بالأنبياء جميعًا، أليس في هذا ما ينوه بعظيم قدره، ثم صعوده إلى السماوات العلا، ووصوله إلى مكان بسمع فيه صريف الأقلام، وهو مكان لم يصل إليه بشر قبله، أليس في هذا كله ما يبين عظيم قدره عند ربه عز وجل.
إن قدر النبي صلوات الله وسلامه عليه عند ربه عظيم، وإن مكانته فوق كل مكانه، هو سيد ولد آدم، وهو خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وأمته خير الأمم، وكتابه أصدق الكتب، وهديه خير الهدي، فينبغي على الأمة أن تعظم نبيها حقَّ تعظيمه، وتتبع هديه، وتلتزم نهجه، وتدافع عن دينه، وأن تحفظه في قرابته من آل بيته الطيبين.
أسأل الله عز وجل أن يرزُقنا اتباع هدي نبيه، وتعظيم سنته، وحب آل بيته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.