بعض الفوائد من قصة نبي الله هود عليه السلام
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111]، وقال تعالى في آخر قصص الأنبياء من سورة هود: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ﴾ [هود: 100].
ومن هذه العبر والمواعظ:
الأولى: أن الله يبعث لكل أمة رسولًا من أنفسهم يعرفون نسبه، ويدركون نشأته ليتمكنوا من الأخذ عنه والعلم بصدقه والفهم لما يبلغه لهم؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [إبراهيم: 4].
الثانية: ينبغي للداعي في أول دعوته لقومه أن يخاطبهم بألطف الأقوال وألينها، ولهذا قال هود لقومه: يا قوم.
الثالثة: أن أعظم ما أمر الله به خلقه، وبعث به رسله هو عبادته وحده لا شريك له؛ قال هود: ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ﴾ [هود: 50]، وهذه الكلمة الحق التي دعا إليها جميع الرسل.
الرابعة: على الداعي أن يُبين الدليل على صحة ما يدعو إليه، حتى وإن كان ما يدعو إليه حقًّا ظاهرًا لا خفاء فيه؛ كالدعوة إلى عبادة الله وحده، فإن هودًا عليه السلام لما دعا قومه إلى عبادة الله ذكر لهم الدليل على أنه سبحانه المستحق أن يعبدوه وحدَه، فقال: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾، وهذه حقيقة يعرفها جميع الخلق وتستيقنها أنفسهم، وتشهد بها الآيات في أنفسهم وفيما حولهم؛ قال تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت: 53].
الخامسة: أن اللين في الدعوة إلى الله عز وجل وإن كان مطلوبًا في أول الدعوة، فلا يلزم استمراره دائمًا، فإذا احتاج الداعي إلى الشدة وجب عليه استعمالها، لا سيما على من ظهر عناده بعد قيام الحق عليه، وبذلك قال هود لقومه: ﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [هود: 50].
وقد أمر الله موسى عليه السلام أن يقول لفرعون قولًا ليِّنًا فلما عاند وكابر، قال له موسى: ﴿ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ﴾ [الإسراء: 102]، وهذه طريقة جميع الأنبياء وأدلتها كثيرة في الكتاب والسنة، فليعلم الدعاة أن القول اللين، له مواضع لا يصلح فيها الشدة، وأن الشدة لها مواضع لا يصلح فيها اللين، فمن الحكمة وضع كل شيء في موضعه: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 269].
السادسة: لا ينجح الداعية في دعوته إلا بأن يكون مخلصًا فيها لا يطلب ثوابها إلا من الله تعالى؛ قال هود: ﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [يوسف: 51].
فمن كان مستقيمًا في نفسه، ولا يسأل الناس أجرًا على دعوته لهم، فإنه واجب الاتباع، ولذلك قال مؤمن آل يس لقومه: ﴿ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [يس: 21].
السابعة: من قدَّم خيرًا وأخذ جزاءه، فلا لوم عليه، ولكن لا عبرة في هذا، إنما العبرة فيمن يقدم خيرًا عظيمًا فيه النجاة والسعادة التامة، ثم لا يأخذ عليه جزاءً، فإن هذا دليل على أنه مرسل من ربه الذي فطره وصوره وشق سمعه وبصره، فهو لا يأخذ أجرًا إلا منه، كما يدل أيضًا على كمال نصيحته لمن نصح له وهؤلاء هم رسل الله، ومن اقتدى بهم وسار على طريقهم: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 90]، ولهذا قال هود لقومه: ﴿ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ﴾ [هود: 51].
الثامنة: من أهم ما ينبغي للداعي إلى الله أن يدعو الناس إلى أن يستغفروا ربهم ويتوبوا إليه، فالاستغفار لما مضى، أما التوبة فلما يستقبل، فالعبد لا يستقيم حاله حتى يستغفر ربه مما بدر منه ولا ينسى ما قدمت يداه، وأن يحدث لكل ذنب توبة، قال هود لقومه: ﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 52].
التاسعة: على الداعي أن يدل الناس على كل خير يعلمه لهم سواء في الدنيا أو في الآخرة، وقد بين هود عليه السلام لقومه أن الاستغفار والتوبة وسيلة إلى إدرار المطر وحفظ الصحة، وزيادة القوة ودفع الأسقام، قال هود عليه السلام: ﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 52].
والفوائد من هذه القصة كثيرة ولعلنا نعود إليها في كلمة أخرى.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|