وفاة خديجة رضي الله عنها
في العام العاشر من بعثة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفي الشهر الذي تُوفي فيه عمُّه أبو طالب، رحلت خديجة رضي الله عنها راضيةً مرضيَّةً، تاركةً وراءها فراغًا لم يُملأ بعد، ذلك بأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يفْقِد بِموتها شريكةَ حياته الأولى، ورائدةَ بيته المُثلى، وأمَّ ولده الفُضلى وحسْب، ولكنه فقد بموتها أكبرَ عونٍ له - من بعد الله عزَّ وجل - على تبليغ الرسالة، واحتمال أعباء الدعوة، كما فقد المؤمنون الأوَّلون بموتها أمًّا لم تلدهم، ولكنها أوْلى من أمَّهاتهم اللائي وَلَدْنَهم برًّا، وأقرب لهم نفعًا.
عام الحزن:
لقد حزن النبيُّ صلى الله عليه وسلم على وَزيرَيْه أشدَّ الحزن وأعظمه، حتى سمَّى سنةَ وفاتهما عام الحزن! وما بلغ حزنُهُ على موتِ أولاده معشار ما بلغ عليهما! ولكن ماذا يفيدان من الحزن، وإن كان الحزين إمام الصَّابرين؟!
أحفظ الناس للصنيعة:
إذًا فلا بدَّ من مكافأة الجميل بأجمل منه، ومجازاة الصنيعة بأحسنَ منها، ومَنْ أوْلى بذلك من إمام الشاكرين؟!
وفي مكافأته وشكره يقول صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه الترمذي: ((ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه به[1]، ما خلا أبا بكر؛ فإنَّ له عندنا يدًا يكافيه الله تعالى بها يوم القيامة))[2].
فأما عمُّه أبو طالب فقد بذل الجهد في مكافأته وهدايته، جزاء ما قدَّم له وللإسلام، من أياد جسام، وقد بسطنا القول في ذلك[3].
وأما أمُّ المؤمنين خديجة رضوان الله عليها، فنُرجئ القول في مكافأتها إلى بيت النبوَّة الثالث، بيت الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق رضي الله عنهما.
أولاد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:
وأولاد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم - في أصحِّ الروايات وأشهرها - سبعة: القاسم، وهو أولهم، وبه يكنَّى صلوات الله وسلامه عليه، وإبراهيم وهو آخرهم، وعبد الله، ويقال له: الطاهر والطيِّب؛ وزينب وهي كبرى بناته الأربع، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة.
وكلُّ أولاده من خديجة رضي الله عنها، إلا إبراهيم فمن مارية القبطية[4] التي أهداها وأختَها سيرين فيما أهدى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم صاحبُ مصر والإسكندرية جريج بن مينا الملقَّب بالمقوقس، أهداهما في السنة السابعة من الهجرة، وقد وهب النبيُّ صلى الله عليه وسلم سيرين لحسان بن ثابت رضي الله عنه.
وقد احتسبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم جميعَ أولاده ما عدا فاطمة الزهراء، فإنها عاشت بعده ستة أشهر[5]. وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أخبرها في مرض موته أنها أوَّل أهله لحوقًا به، وبشَّرها بأنها سيِّدة نساء أهل الجنة [6] بعد مريم بنت عمران[7].
وكان إذا أراد سَفرًا جعلها آخر العهد به، ثمَّ صلَّى ركعتين، وإذا قَدِمَ من سفر جعلها أوَّل العهد به، بعد أن يبدأ بالمسجد، فيُصلِّي ركعتين.
سبب فضل فاطمة الزهراء على أخواتها:
ومن لطائف ما قيل في سبب فَضْلها على أخواتها، بل على أمِّها، أنهنَّ مُتْنَ في حياتِهِ صَلَوات الله عليه، فكُنَّ في صحيفته، ومات هو في حياتها، فكان في صحيفتها وميزانها، ولا يَقْدر مقْدار ذلك إلا الله عز وجل.
القاسم وعبدالله:
واحتسبت خديجة ابنيها: القاسم وعبدالله، وقد وُلِدا بمكة، القاسم قبل النبوَّة، وعبدالله بعدها، وماتا رضيعَيْن كإبراهيم.
وتركت رضي الله عنها بناتها الأربع، وقد أكرمهنَّ الله بالإسلام والهجرة، وأدخلهنَّ في السابقين الأولين، وقد تزوَّجن كلُّهنَّ، وتوفاهنَّ الله في بيوتِ أزواجهنَّ [8].
زينب الكبرى:
فتُوفيت زينب عند زوجها وابن خالتها أبي العاص بن ربيع[9]، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يذكره، ويُثني عليه في مصاهرته، فيُحسن الثناء، ويقول: ((حدَّثني فَصَدَقني، ووعدني فوفَى لي))[10].
وقد حفظت له الجميل فافْتَدَته بعِقْدِها لما أُسر يوم (بدر) قبل إسلامه، في قصة رقيقة معروفة[11].
وولدت له عليًّا، وكان رديفَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على ناقته يوم الفتح، وقد مات صغيرًا، وولدت له أُمامة التي حَمَلها صلوات الله وسلامه عليه في صلاة الصبح على عاتقه، فكان إذا ركع وَضَعها، وإذا رفع رأسَهُ من السُّجود أعادها[12]..
رُقَيَّة وأم كلثوم:
وكانت رُقية زوجًا لعُتْبة، وأمُّ كلثوم زوجًا لأخيه عُتَيْبة ابنَي أبي لهب، عَقَدا عليهما ولم يدخلا، فلمَّا أنزل الله تعالى سورة أبي لهب، قال لهما أبوهما: رأسي من رؤوسكما حرام إن لم تُفارقا ابنَتَي محمدٍ، ففعلا، فأْبْدَلَهما الله خيرًا منهما عثمان[13].
فاطمة الزهراء:
وَتُوفِّيَتْ فاطمة الزهراء عند عليٍّ كرَّم الله وجهه، وَوَلدت له حَسَنًا، وحُسينًا، ومُحسنًا - وقد مات صغيرًا - وأُمَّ كلثوم، وزينب.
وكما قضى الله ألَّا يكون لخاتم النبيين ولدٌ إلا من خديجة، قضى سبحانه ألَّا يبقى له عَقِبٌ إلا من ابنتها فاطمة، انتشر نَسْلُه الشريف منها، من قِبل السِّبْطَيْن: الحسن والحسن، ليس غير.
تزوَّج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو بِكْر خديجةَ رضي الله عنها وهي ثيِّب، وانتقلت إلى جوار ربِّها، وقد بلغت بضعًا وستين سنة، وبلغ هو بضعًا وخمسين.
الشأن في زواجه صلى الله عليه وسلم:
ولو كان صلواتُ الله عليه يقْصد من زواجه ما يقصده العامة - وحاشاه - منْ مَتَاع الحياة الدنيا، لاختار غير واحدة من الأبكار المُعْجِبات الرائعات حُسْنًا وجَمَالًا وسنًّا، في زَهرة حياته وَنَضْرة شبابه، وما مِنْ بيتٍ من بيوتات العرب في الجاهلية والإسلام، إلا وهو يُؤْثر رغباتِه، ويَتَسابقُ في مَرْضاته، ونحسَبُ أنَّ سَوْق الأدلة على ذلك، كسَوْق الأدلة على الشَّمس، وقد دمغت رأس منكرها في وَضح النهار.
الشأنُ إذًا في زواجه صلوات الله وسلامه عليه، أجلُّ من الدنيا ومتاعها، بل أعظم من النفس وحاجاتها..
والشأن إذًا للعقل والروح، والفضل والنُّبل، وتوثيق العُرى وشد الأواصر، وجَمْع القلوب على كلمة الله، وكذلك كان أساسُ اختياره صلى الله عليه وسلم، أو اختيار الله له فيما أَمَره أو كَتَبَ له من الأزواج.
زوجٌ لا تُعوَّض:
لم يخطر بباله يومًا أن يتزوَّج على خديجة رضي الله عنها، حتى إذا استجابت لربِّها، أحوجَ ما يكون صلوات الله وسلامه عليه إلى سكنها وعونها، فكَّر فيمن عسى أن تُخفِّف عنه من شدائد الدعوة وأعبائها، وما نحسبه عليه صلوات الله وسلامه فكَّر فيمن يُعوِّض خديجة، فإنَّ خديجة - كما تدلُّ دلائل أحواله ومقاله - لا عِوَض لها. وإنه صلى الله عليه وسلم لكذلك، إذ جاءته خَولة بنت حكيم، فقالت له: ألا تتزوَّج؟ قال: من؟ قالت: إنْ شئْتَ بكرًا، وإن شئْتَ ثيِّبًا، أما البكر فابنةُ أحبِّ الخلق إليك عائشة، وأما الثيِّب فَسَوْدَةُ بنت زَمْعة، قد آمنَتْ بك واتَّبعتك، قال: اذهبي فاذكريهما عليَّ.
فذهبت إلى سَوْدة فقالت: ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قالت سودة: وما ذاك؟ قالت: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليك لأخطبك عليه، فَفَرحت سَوْدة بهذه الزِّيجَةِ الكريمة، وأشارت على خَوْلة أن تستأذن أباها، وكان شيخًا كبيرًا، فأَذِنَ من فوره.
سَوْدة بنت زَمْعَة:
كانت سَوْدة بنت زَمْعَة - وهي قرشيَّةٌ عامريةٌ - تحت ابن عمِّها السَّكران بن عمرو، أسلم معها قديمًا، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، فلمَّا قَدِما مكة ماتَ زوجها، فكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم خيرَ عوضٍ لها.
بيت النبوة الثاني:
وبنى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على سَوْدة قبل أن يبنيَ بعائشة، فكانت سَوْدة صاحبة بيته الثاني، وكانت تقيَّةً سخيَّةً مَرِحة، تُضحك الرسول صلى الله عليه وسلم بالشيء أحيانًا، وخَشيَتْ أن يُطلِّقها صلوات الله عليه، لِكِبَر سنِّها وبطْئها، فسألته أن يُمسكها، وأن يجعل يومها لعائشة[14]، وأخبرته أنها تريد أن تُحشَرَ في أزواجه، وأنها لا تريد ما تريده النساء، فأنزل الله تعالى: ﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ﴾ [النساء: 128]. ولا جَرَم أنَّ هذا التسامح للضرَّة، والتيسير في المعاشرة، إحدى فضائل سودة، ومن عظيم أفضالها إيلافُ[15] قومها بهذه الزِّيجة، حتى نالوا شَرَفَ الإسلام والصحبة.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|