يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟
أخرج الشيخان من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: «لما كان يوم حنين، آثر النبي صلى الله عليه وسلم أناسًا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسًا من أشراف العرب. فآثرهم يومئذٍ في القسمة.
قال رجل: والله إن هذه القسمة ما عُدِل فيها، وما أريد بها وجه الله.
فقلت: والله لأخبرن النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيته فأخبرته فقال: «فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله، رحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر».
وفي رواية: «فساررته، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، وتغير وجهه وغضب، حتى وددت أني لم أكن أخبرته..»[1].
وفي رواية لمسلم: «أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب، وصفوان ابن أمية.. مائة من الإبل»[2].
وأخرج الشيخان، عن أنس بن مالك: «أن ناسًا من الأنصار قالوا: لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاء الله عليه من أموال هوازن ما أفاء، فطفق يعطي رجالًا من قريش المائة من الإبل. فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يعطي قريشًا ويدعنا وسيوفنا تقطر من دمائهم»[3].
وفي رواية: «قالت الأنصار: والله إن هذا لهو العجب، إن سيوفنا تقطر من دماء قريش وغنائمنا ترد عليهم؟»[4].
تلك بعض الانتقادات التي وجهت إلى قسمة غنائم حنين.
فما هي قصة تلك الغنيمة؟
حصل المسلمون في معركة حنين على غنائم كثيرة، وقد تأخر الرسول في قسمتها بضع عشرة ليلة على أمل أن يأتيه وفد هوازن قبل قسمتها فيردها عليهم.
ولكن هوازن تأخرت في مجيئها، وجعلت الأعراب يطالبون بقسمة الغنائم. مما اضطر النبي صلى الله عليه وسلم إلى تقسيم الغنائم.
والغنائم - كما هو معلوم - تقسم إلى خمسة أقسام، أربعة منها توزع على المقاتلين، والخمس الباقي يكون للرسول صلى الله عليه وسلم وحكمه حكم الفيء، أي يعطي منه ذوي القربى ويصرف الباقي في مصالح المسلمين بحسب ما يراه.
عن عمرو بن عبسة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعير من المغنم، فلما سلَّم، أخذ وبرة من جنب البعير، ثم قال: «ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذه إلا الخمس، والخمس مردود فيكم»[5].
أجل، قسمت الغنيمة حسب شريعة الله تعالى، وأخذ كل نصيبه، الأنصار وغيرهم وكانت الغنيمة أموالًا وسبايا.
وجاء وفد هوازن:
قال عبدالله بن عمرو: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتته وفد هوازن، فقالوا: يا محمد، إنا أهل وعشيرة، وقد نزل بنا من البلاء ما لا يخفى عليك، فامنن علينا، منَّ الله عليك، فقال: «اختاروا: من أموالكم، أو من نسائكم وأبنائكم» فقالوا: قد خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا، بل نختار نساءنا وأبناءنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لكم، فإذا صليت الظهر فقوموا فقولوا: إنا نستعين برسول الله على المؤمنين - أو المسلمين - في نسائنا وأبنائنا» فلما صلوا الظهر، قاموا فقالوا ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لكم» فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم..»[6].
وإذًا فقد أخذ الأنصار نصيبهم من القسمة ثم ردوا السبي كما فعل غيرهم واحتفظوا بالأموال.
فما هي قصة قولهم السابق؟!
إن العطايا التي أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانت من الخمس الذي أعطاه الله تعالى حق التصرف فيه وفقًا لما يرى المصلحة فيه.
وقد رأى صلى الله عليه وسلم أن يتألف أولئك المسلمين الجدد، فأعطاهم ما أعطاهم. ورأى الأنصار أنهم كانوا أولى - لا أنهم أصحاب حق - من غيرهم، فالعطاء هنا تعبير عن تقدير جهود المقاتلين، وكثيرًا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفل بعض المقاتلين غير نصيبه من الغنيمة تقديرًا لبلائه، وقد كان الأنصار عماد المعركة يوم حنين فكانوا يطمعون بتقدير جهودهم..
وإذًا، فليس هناك انحراف أو ظلم في القسمة.
وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأنصار فجمعهم وحدهم، ولم يدع معهم أحدًا غيرهم وقال: «ما كان حديث بلغني عنكم؟».
قال له فقهاؤهم: أما ذوو آرائنا يا رسول الله، فلم يقولوا شيئًا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم، فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي قريشًا ويترك الأنصار، وسيوفنا تقطر من دمائهم[7]..
فقال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالًا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وكنتم عالة فأغناكم الله بي؟».
كلما قال شيئًا، قالوا: الله ورسوله أَمَنُّ.
قال: «ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -».
قال: كلما قال شيئًا، قالوا: الله ورسوله أمنُّ.
قال: «لو شئتم قلتم: جئتنا كذا وكذا.. أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار، ولو سلك الناس واديًا وشعبًا، لسلكت وادي الأنصار وشعبها..»[8].
وفي رواية: قال صلى الله عليه وسلم: «إني أعطي رجالًا حديث عهدهم بكفر، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعوا إلى رحالكم برسول الله..»[9].
قال: فبكى القوم حتى اخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسمًا وحظًا[10].
وإنما جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم منفردين ليبين لهم الحكمة مما فعل وأن الغاية تألف القوم، ولو أعلن ذلك على الناس لبطلت الغاية من هذا التوزيع، إذا عرف أولئك أن العطاء لتأليفهم على الإسلام.
وإذا كان الله تعالى قد جعل للمؤلفة قلوبهم نصيبًا من الزكاة فإعطاؤهم من الخمس من باب أولى.
أليس هذا هو العدل والحكمة؟!
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|