من صفات عباد الرحمن {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} ، {وإذا مروا باللغو مروا كرام
في هذا العصر كثُر اللغو والكلام والثرثرة، خاصة مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي، وترى الكثير من التافهين والجهلة الذين يحبون الظهور والشهرة بين الناس يستخدمون هذه الوسائل، بالتعريض بأصحاب القيم الرفيعة، والأخلاق الحميدة، والصلاح والإصلاح، والمشهود لهم بين الناس بذلك؛ ظنًّا منهم أن ذلك سيؤدي إلى ذيوع أصواتهم وشهرتهم، والمتاجرة بالقيم والأخلاق والدين.
كما أنهم قد يهاجمون بعض جوانب الدين الراسخة في المجتمع بين المسلمين، ويسخرون من الذين يتمسكون بها، وتصبح هذه السخرية والهجوم على الدين أداة لهم في وسائل الإعلام المختلفة، وما أكثر هذه الموضوعات انتشارًا بين ألسنة الناس وتعليقاتهم!
إن الدنيا مليئة جهلًا ونفاقًا وفتنًا، فهناك الحاقدون والحاسدون، وملاحقو المشاكل، ومتابعو المصائب والكذب والخيانة، وظهور ذي الوجهين.
وللأسف، فإن هؤلاء المسعورين يزدادون سعارًا إذا ردَّ عليهم أحد، وقد وصفهم الله في كتابه؛ بقوله:﴿ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ﴾ [الأعراف: 176].
فهم الذين لا يقفون عند حدود ما يجب وما يلزم من الآداب، والأخلاق، والحقوق، والواجبات، وإنما يتجاوزون ذلك، فيفعلون ما لا يليق، ويصدر منهم ما لا يحسن ولا يجمل، هذا هو الجاهل، لا يقف عند حدود الله،؛فيظلم هذا، ويسيء إلى هذا، ويقذف هذا، ويشتم هذا، فهذا جاهل، فهو يتكلم بكل شيء، ومستعدٌّ أن يفعل كل شيء، فإذا أردت مجاراته، فمعنى ذلك أن القضية في انحدار، ثم لا يزال يسفل ويهبط في شتائمه، وكلامه، وسبابه، حتى يصل إلى قعر وحضيض يصعب مجاراته فيه.
فإذا نقص عقل الإنسان، طال لسانه، وطالت يده؛ لأنه يتحول إلى مثل البهيم، فالبهيمة لا تعقل، وإنما تعارك وتناطح بقرونها، وإن كانت من ذوات الأنياب، فبأنيابها ومخالبها، والإنسان حينما يهبط وينحدر، ويضعف عقله، ويضعف دينه، تتلاشى أخلاقه، ثم بعد ذلك يطول اللسان، فتطول اليد، فيحصل منه التعدي، والإجرام، والوقيعة في أعراض الناس، والقذف والسباب، والشتائم، فمن اقترب منه لم يسلم.
ولكن ما هي الصورة التي يريد الله لعباده أن يتمثلوها في سلوكهم العملي مع هؤلاء؟
هنا كان التوجيه من رب العباد لعباده في القرآن الكريم للتعامل مع هؤلاء.
﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63]، ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾ [الفرقان: 72]، ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ [القصص: 55].
إن الذين يطبقون منهج الله في التعامل مع هؤلاء الجهلة هم عباد الرحمن، ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ ﴾ بما تعنيه الصفة الإلهية من معنى الرحمة، التي تمثل عمق المعنى في ذاته المقدسة، وما توحي به من لطف الله بالإنسان في روحيته، وفي حركة حياته، ووعيه لوجوده، وفي عمق المسؤولية التي تربطه بالله، وتجعله يتطلع إلى آفاق الرحمة الإلهية، آملًا أن تحتويه بالخير والبركة، والتوازن والانضباط في السلوك العملي بين يدي الله.
هذا هو المنهج: ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63]، فهم لا ينطلقون مع الناس الذين يثيرونهم بالكلام القاسي غير المسؤول، من مواقع ردَّة الفعل الغريزية التي تتحرك بطريقة الإثارة، في مواجهة الكلمة القاسية الغليظة بالكلمة المماثلة في قسوتها وغلظتها، أو في مقابلة الشتم والسباب، بكلمات الشتم والسباب المماثل أو غير المماثل، بل يدرسون المسألة من موقع العقل المتأمِّل الواعي المنفتح على الواقع من جميع جوانبه، فإذا رأوا للموقف خطورةً تستدعي الردَّ، كان ردهم لطيفًا حاسمًا، وإذا لاحظوا أن الجاهلين يتحركون - في كلامهم - من مواقع الجهل الذي يتعمد الإثارة، ليخلق مشكلة، أو يثير فتنةً، أعرضوا عن الردِّ المباشر، وكانت روح السلام الذي يتفادى المشكلة والفتنة والإثارة، هي موقفهم ومنطقهم، فاكتفوا بكلمة ﴿ سَلَامًا ﴾، هذا الردُّ العاقل المتزن الموحي الذي يقول للجاهلين: لسنا هنا في معرض الانفعال للدخول معكم في حرب، بل نحن هنا في موقع الإعراض عن جهلكم، بروح السلام.
وهذه هي الطريقة الحكيمة التي يواجهون بها خطاب الجاهلين، عندما يحتاج الموقف إلى ذلك، على سبيل الكناية؛ إمساكًا منهم بالموقف، وتحقيقًا لمبتغى المصلحة في ذلك.
إن الإعراض عن الجاهلين يكون بعدم مجاراتهم فيما يقولونه ويفعلونه، بترك الرد عليهم وإهمال ما يثيرونه من زوابع، من أجل السلامة من الإثم عند الله تعالى، والنقص عند الناس.
فعلى عباد الرحمن أن ينزهوا أنفسهم ويكرموها؛ بأن يجتنبوا جميع المشاركات مع هؤلاء الجهلة، أو الرد عليهم فيما يخوضون فيه من الأقوال المحرمة، كالخوض في آيات الله، والجدال الباطل، والغِيبة والنميمة، والسب والقذف، والاستهزاء بالعلماء المشهود لهم بالصلاح بين المسلمين، عليهم أن ينزهوا أنفسهم ويكرموها بتجاهل هؤلاء الجهلاء.
فالخوض معهم فيه سفه ونقص للإنسانية والمروءة، فاربؤوا بأنفسكم عنه، فعباد الرحمن لا يشغلون أنفسهم به، ولا يلوثونها بسماعه، إنما يكرمونها عن ملابسته، فللمؤمن ما يشغله عن اللغو والهذر، وليس لديه من الفراغ والبِطالة ما يدفعه إلى الشغل باللغو الفارغ.
وعباد الرحمن في جِدِّهم ووقارهم وقصدهم إلى ما يشغل نفوسهم من اهتمامات كبيرة، لا يتلفتون إلى حماقة الحمقى، وسفه السفهاء، ولا يشغلون بالهم ووقتهم وجهدهم بالاشتباك مع السفهاء والحمقى في جدل أو عراك، ويترفعون عن المهاترة مع المهاترين الطائشين.
﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63] لا عن ضعف، ولكن عن ترفع، ولا عن عجز، إنما عن استعلاء، وعن صيانة للوقت والجهد أن يُنْفَقَا فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن المهاترة بما هو أهم وأكرم وأرفع.
ولا ينسى المؤمن المعرِض عن الجاهل أنه في اختبار من ربه، فيحتاج إلى حِلْمٍ وأناة، ويحتاج إلى صبر وتحمُّلٍ، وفي هذا الإعراض عن الجاهل بهذا الحلم والأناة، والصبر والتحمل دعوة له لمراجعة نفسه، والإفاقة من نومه.
أيها المسلم:
هل أدركت هذا المنهج وأعددت نفسك به، وطبقته في بحر الفوضى الإعلامية؟
سلِّم ربي عبادك من كل شر وسوء.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|