شرح حديث: فأوف بنذرك
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
باب الاعتكاف
متن الحديث:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة -وفي رواية: يوماً- في المسجد الحرام، قال «فأوف بنذرك» ولم يذكر بعض الرواة: "يوماً" ولا "ليلة".
الشرح: غريب هذا الحديث:
قول عمر رضي الله عنه قلت: أي قلت سائلاً، وكان هذ السؤال في الجعرانة، مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من حنين.
وقوله: "نذرت" النذر في اللغة: هو العهد والالتزام.
وفي الاصطلاح: إلزام المكلف نفسه لله تعالى شيئاً غير واجب.
فقول عمر رضي الله عنه: "نذرت" أي أوجبت على نفسي وألزمتها.
وقوله: "في الجاهلية" الجاهلية: هي ما قبل الإسلام، لغلبة الجهل على أهلها.
وقوله: "المسجد الحرام" يعني ذو الحرمة.
وموضوع هذا الحديث: هو حكم الوفاء بالاعتكاف المنذور.
ومعنى هذا الحديث: عمر رضي الله عنه يذكر حالة حصلت له في الجاهلية، وهي أنه نذر أن يعتكف في المسجد الحرام، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن حكم هذا النذر.
وهذا يدل على أن الناس كان عندهم بقايا من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومن دين إسماعيل عليه السلام، فعمر رضي الله عنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن نذره بالاعتكاف في المسجد الحرام، أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يوفي بنذره، لأن النذر وإن كان عقده مكروها، إلا أن الوفاء به واجب.
ومن فوائد هذا الحديث: أن النذر مكروه، وهذا هو الأصل فيه، فهو مكروه، ومال بعض العلماء إلى تحريم النذر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، وقال: «لا يأتي بخير، وإنما يُستخرج من البخيل» رواه البخاري ومسلم.
فالنذر مكروه، لكن إن ألزم نفسه بهذا النذر، فإن الواجب عليه أن يوفي به، فمن نذر أن يطيع الله تعالى فليطعه، ومن نذر نذراً فعليه أن يعمل بما ألزم نفسه به من النذر.
ومن فوائد الحديث: أن الكافر إذا نذر نذراً في حال كفره، شُرع له الوفاء به إذا أسلم، وبعض العلماء يرى صحة النذر من الكافر، وجمهور أهل العلم أنه لا يصح، لأن النذر قربة وعبادة، والكافر ليس أهلاً لهذه العبادة، فجمهور أهل العلم يقولون: لا يصح، وحملوا حديث عمر رضي الله عنه أنه قال له: «أوف بنذرك» حملوه على الاستحباب، وكما يقول ابن بطال: "محمول عند الفقهاء على الحض والندب لا على الوجوب، بدلالة أن الإسلام يهدم ما قبله"، والراجح والله تعالى أعلم، والذي يظهر: أنه يصح إذا أسلم، ويُشرع له أن يفي به، باعتبار ما آل إليه الأمر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحكيم بن حزام رضي الله عنه: «أسلمت على ما أسلفت من خير» رواه البخاري ومسلم.
أما من نذر في الإسلام أن يعتكف، فيجب عليه الوفاء بنذره بإجماع العلماء، فالاعتكاف سنَّة، ولا يجب على العبد الاعتكاف، وليس مفروضاً، إلا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذراً، فهو مشروع ومسنون، لكن إذا نذر، وجب عليه أن يفي به، فيجب الاعتكاف بالنذر، ويلزم الوفاء به.
ومن الفوائد: أنه إذا عين لاعتكافه المسجد الحرام أو المسجد النبوي تعين، فإذا عين ما دونهما من المساجد أجزأ عنه، وكل مسجد فاضل يجزئ عما دونه بالفضل، فلو نوى أن يعتكف مثلاً: في جامع، ثم ذهب واعتكف في أحد الحرمين الشريفين أجزأ عنه، لأن كل مسجد فاضل يجزئ عما دونه من الفضل.
ومن الفوائد في قوله: "أن أعتكف ليلة" عبارة "ليلة" عليها أكثر الروايات، وهي روايات الصحيحين، ولذلك بوب البخاري رحمه الله قائلاً: باب الاعتكاف ليلاً، وقال: باب من لم ير عليه صوماً إذا اعتكف، وروى "ليلة"، وروى أيضاً: "أن أعتكف ليلة"، والإمام مسلم رحمه الله تعالى، روى "يوماً" وروى "ليلة"، فلفظة: "ليلة" هي أكثر الروايات، فورد يوماً، وورد مطلقاً، ولفظة: "ليلة" تدل على أنه يجزئ الاعتكاف بدون صيام.
ومن الفوائد: أنه لا يُشترط للاعتكاف الصوم، بل هو مشروع، فالعلماء متفقون على مشروعية الصيام مع الاعتكاف، لأن تمام قطع العلائق عنه الدنيا يكون بالصيام.
وبعض أهل العلم: اشترط لصحة الاعتكاف الصيام، كالحنفية والمالكية، ويُرد عليهم بأنه لا دليل عليه، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتكف إلا صائماً، وهذا فعل مجرد، ولا يكون دالاً على الشرطية، والحديث الذي معنا ليس فيه دليل على وجوب الصيام للاعتكاف، فيصح الاعتكاف من غير صيام، والنبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في شوال، وقضى اعتكافه في شوال كما في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، ولم تذكر أنه صام لأجل هذا الاعتكاف، وحديثنا معنا الآن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بالوفاء بنذره، والاعتكاف ليلاً، فلم يأمره صلى الله عليه وسلم بالصيام، ولذلك ابن مسعود وابن عباس يقولان: "ليس على المعتكف صوم، إلا أن يجعله على نفسه"، أما رواية "اعتكف وصم" فهذه رواية إسنادها ضعيف، ولا تصح، كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى رحمة واسعة، هذه الزيادة "اعتكف وصم" عند أبي داود والنسائي، ولكن الإسناد ضعيف، فيصح الاعتكاف من غير صيام.
ومن الفوائد المتعلقة بقوله: "أن اعتكف ليلة" ما يتعلق بأقل مدة للاعتكاف أو أقل الاعتكاف، فقد ذهب أبو حنيفة ومالك: إلى أن أقل الاعتكاف يوم وليلة، وذهب الشافعية: إلى جواز الاعتكاف ساعة أو لحظة، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
والذي يظهر والله تعالى أعلم: أن الاعتكاف إذا انقطع عن الناس فترة يصدق عليه أنه انقطع عن أهله وأشغاله، فإنه يعتبر اعتكافاً، كأن يعتكف مثلاً: ما بين القيامين، أو يعتكف من المغرب إلى القيام الثاني، فهذا لبث مدة صدق عليه أنه التزم المسجد، وعكف على العبادة، فيسمى هذا اعتكافاً، ولذلك جمهور أهل العلم يقولون: يشترط اللبث في المسجد، وأنه يجوز الكثير منه والقليل حتى ساعة أو لحظة، وهذا قاله الإمام النووي، والذي يظهر والله تعالى أعلم: أنه يُرجع في ذلك إلى تعريف الاعتكاف: وأنه لزوم المكان، والإقامة به، فإذا لزم في المكان وأقام وانقطع عن أهله وعن بيته، فيصدق عليه أنه اعتكف، أما الاعتكاف لحظة: فلا يصح، ولذلك إذا استطاع أن يعتكف ليلة أو يوماً وليلة فهذا أفضل، فيعتكف من قبل المغرب إلى الفجر فهذا طيب، لأن عمر قال: "أن أعتكف ليلة" أو يعتكف يوماً، أو يعتكف أياماً، فهذا كله طيب، وإذا لم يتمكن من اعتكاف العشر، فإنه يعتكف في الليالي التي تُرجى فيها ليلة القدْر، وفضل الله واسع، وبعض الناس قد لا يستطيع أن يجلس إلا بين القيامين أو يجلس فترة من الليل، فهذ يصدق عليه إن شاء الله تعالى أنه اعتكف، لأنه أقام ولزم المسجد فترة، يصدق عليه أنه يسمى معتكفاً، ومنقطعاً عن الدنيا.
أيضاً في سؤال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: حرص الصحابة _صلى الله عليه وسلم_ على العلم، وعلى سؤال النبي صلى الله عليه وسلم.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|