نعمة العين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فإنَّ العين نعمة من الله تعالى، امتنّ الله بها على عباده ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78]، والناس فيها قسمان: شاكر وكافر، والله تعالى خالق الإنسان هو خالق عينيه، بهذا الشكل البديع الجميل، الذي يعجز الخلق جميعًا عن مثيله أو قربه.
فانظروا إلى جمال العين، التي ضرب بها المثل، وإشراكها مع أختها لتعوض عنها في حال عطب أحدهما، والسائل الشفاف الذي يغسل العينين دائمًا، والسرعة الفائقة التي تقوم بها العين بالغسيل فلا تحجب البصر، والاستدارة في العين التي تسمح لها باتساع النظر، واستقبال العين لمختلف الأنوار العالية والخافتة والقريبة والبعيدة وتكيفها مع كل ذلك بما يناسبه، وبعد ذلك التكوين الداخلي الدقيق لهذه العين في استقبالها للصور وتحويلها إلى الدماغ عن طريق شبكة معقدة من الألياف [900 ألف خيط عصبي] ولا يعلم حتى الآن كيف تقوم هذه الألياف بتحويل المرئيات إلى صور، وتبقى سر غامض حجبه الله تعالى عنا لنحس بفقرنا إليه، والعين جوهرة أهداك خالقها كي تشهد الفضل للوهاب بالبصر.
والعينُ تُبصِرُ هل تَدرِي طبيعتَها *** فالشَّكل يُدرك في لمحٍ من النَّظرِ
والله تعالى لم يخلق لنا العين لنغلقها بل للنظر بها فيما يرضيه، ولم تنقل لنا عبادة من العبادات تأمر بغلق العينين، بل إن كثيرًا من العبادات تعتمد اعتمادًا كبيرًا على النظر، وهذا هو الموافق لسنة الله تعالى في الخلق، وما كان يؤمر فيه المسلم بغض البصر فإنما في حال استخدامها في خلاف ما استخلفه الله تعالى فيه.
على أن الله تعالى الذي أعطانا العيون، حرَم بعض خلقه منها، وسيعوضهم عنها يوم القيامة، ولكن العمى الحقيقي ليس عمى العين ولكن عمى البصيرة، وكم من امرئٍ ينظر وهو أعمى، وكم من كفيف وهو في الناس بصير ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾ [الأعراف: 179]، ﴿ وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 198]، ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].
ولأن الله تعالى خلق الخلق لعبادته ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، فإن هذه العبادة موزّعة على جوارح الإنسان وأعضائه، ولكل عضو عبادة تناسبه، ومن عبادات جارحة العين: النظر في ملكوت السموات والأرض: وهذه العبادة العظيمة التي تورث التفكُّر في خلق الله تعالى، ثم الخشية منه سبحانه، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190، 191]، وقال سبحانه: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [يوسف: 105]، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ [الغاشية: 17 - 20].
هلْ تُرسِلُ الطَّرفَ في الأكوانِ تَسْألُها
عَمَّنْ يراها وأَهداها إِلى البَشَرِ
مَنْ وسَّع الكونَ لا ندرِي له طرفًا
وأوْدعَ السِّرَّ فيما دَقَّ من صِغَرِ
تَبارك اللهُ في خلقٍ بدا عَجبًا
فلا تفاوتَ لا تَفريطَ في قَدرِ
ومن عبادات العين: النَّظر في المصحفِ الذي يحوي كلام الله تعالى، وكما يتأمل المسلم في كتاب الله المنظور فهو يتأمل في كتاب الله المقروء: قال ابن مسعود رضي الله عنه: أديمو النظر في المصحف، وفي كتب العلم.
ولاشك أن هذا النظر لا يكون عبادةً إلا بنية التعبُّد والاحترام والإجلال.
ومن عبادات العين: النظر إلى سمت العلماء وهديهم وطريقة تعاملهم: وقد قال صلى الله عليه وسلم لأصحابة في حق طلحة بن عبيدالله رضي الله عنه: «مَنْ سرَّه أن ينظرَ إلى شهيدٍ يمشي على الأرضِ فلينظر إلى هذا»، فالنظر إلى طلحة رضي الله عنه يذكّر بمواقفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنظر إلى بعض العلماء الربانيين يؤثر في الناظر لما يرى خشيتهم من الله وكثرة رقّتهم، قال جعفر بن سليمان: كنتُ إذا وجدتُ من قلبي قسوةً غدوت فنظرت في وجه محمَّد بنِ واسع، وكنتُ إذا رأيت وجهه كأنه وجه ثكلَى.
ومن عبادات العين: البكاء من خشية الله، والحراسة في سبيل الله: قال صلى الله عليه وسلم: «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله»؛ رواه الترمذي وحسنه.
فإذا تعبَّد المؤمن بعينه فإن الله تعالى يأجره على ذلك يوم القيامة بالنظر إلى نعيم الجنة، قال سبحانه ﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ﴾ [المطففين: 34، 35]، وأعظمُ النَّظرِ النَّظرُ إلى وجه الله تعالى الكريم، قال تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22، 23]، وعن صهيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا دخل أهلُ الجنة الجنةَ- قال - يقول الله تعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تُبيِّض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: « فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم، وهي الزيادة، ثم تلا هذه الآية ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26].
الخطبة الثانية
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ من أفضلِ أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه؛ فإنَّ صلاتكم معروضةٌ عليَّ»، وقال صلى الله عليه وسلم: «أولَى النَّاسِ بي يوم القيامةِ أكثرهم عليَّ صلاةً».
وبعـــد:
وكما للعين عبادة، فللعين معصية، وهي زنا العين الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أَبو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، فَزِنَا العَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ المَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ» رواه البخاري ومسلم.
فمن زنا العين: النظر إلى المرأة الأجنبية، والفتى الأمرد الحسن، قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴾ [الأحزاب: 53]، وقيل:
كلُّ الحوادثِ مبدأُها مِنَ النَّظرِ
ومُعظمُ النَّارِ من مُسْتصغرِ الشَّررِ
كمْ نظرةٍ فتكتْ في قلبِ صاحبِها
فتكَ السَّلامِ بلا قوسٍ ولا وترِ
والمرءُ ما دام ذا عينٍ يُقلِّبها
في أعينِ الفيدِ موقوفٌ على الخَطرِ
يَسرُّ مقلتُه ما ضرَّ مهجتَهُ
لا مرحبًا بسرورٍ عاد بالضَّررِ
ومن زنا العين: النظر في عورات البيوت، قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّما جُعِل الاستئذانُ من أجلِ البَصرِ» رواه البخاري.
ومن زنا العين: النظر إلى عورات الناس: قال صلى الله عليه وسلم: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة» رواه أحمد ومسلم عن أبي سعيد.
ومن زنا العين: النظر إلى أعياد وأزواج ومساكن الظالمين والكفار إعجابًا بها، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾ [طه: 131].
والواجب على المؤمن غض البصر، كما قال الله تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ﴾ [النور: 30]، ومن جاهد نفسه فغض بصره هداه الله، قال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|