فضل الإصلاح بين الناس
الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره، لا مؤخر لما قدمه، ولا مقدم لما أخره، أحمده وأشكره على نعمه الوافرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ أما بعد:
أيها الناس: أوصيكم ونفسي بالتقوى، التي لا تحلو الحياة إلا بها، ولا يدخل الجنة إلا أهلها: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [يونس: 62، 63].
عباد الله، جرت العادة أن يكون بين الناس شيء من المنازعات، وأنواع من الخصومات، ومن طبيعة البشر أن يتمسك كلٌّ برأيه، ويظن أن الحق معه، وللشيطان في هذا الباب مداخل لإفساد ذات البين، وربما يتطور النزاع، وتعظم المشاكل بين الخصوم، إما لأسباب تافهة، أو أخطاء عابرة، لم يقيَّض لها رجال فضلاء يحتسبون الأجر، ويسعون في إصلاح ذات البين.
أيها الفضلاء، حديثنا اليوم عن عبادة من أعظم الطاعات، وأفضل القربات...، حديثي عن فضل الإصلاح بين الناس، عن هذا العمل الجليل الذي أثنى الله عليه بقوله: ﴿ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾ [النساء: 128]، وأمر به؛ فقال جل وعلا: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾ [الأنفال: 1]، وقال عز شأنه: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [النساء: 114].
أيها العقلاء، المصلح بين الناس له أجر عظيم، فأجره يفوق ما يناله الصائم القائم؛ كما في الحديث، قال صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة، والصيام، والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة))؛ ومعنى الحالقة: أي: تحلق الدين.
وفي الحديث الصحيح عن سهل بن سعد رضي الله عنه، أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: ((اذهبوا بنا نصلح بينهم)).
أيها المسلمون، الإصلاح بين الناس عمل جليل لا يقوى عليه إلا الرجال الأخيار من أمثالكم، ولا يتحمله إلا من شرفت أقدارهم، وزكت نفوسهم، ومن تصدى للإصلاح بين الناس، فعليه أن يتأدب بآداب؛ من أعظمها وأجلِّها:
أولًا: أن يخلص النية لله عز وجل، فلا يبتغي بصلحه رياءً ولا سمعةً، ولا ينشد ثناء الناس، ولا يرجو شكرهم، ولا ينتظر مدحهم، وإنما يقصد بعمله وجه الله عز وجل: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114].
ثانيًا: من آداب الإصلاح: أن يتحرى المصلح العدل بين المتخاصمين، فلا يميل لأحد الخصمين لقوته ونفوذه، أو لإلحاحه وعناده؛ فيظلم الآخر لحسابه، والله جل وعلا قد أمر بالعدل بين المتخاصمين؛ فقال سبحانه: ﴿ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9].
ثالثًا: على المصلح أن يختار الوقت المناسب للصلح، فلا يبادر إلى الصلح عقب التشاتم والخصام، بل ينتظر بقدر ما يسكن الخصمان، ويعودان إلى رشدهما، وتذهب شدة الغضب، وتضعف دواعي الانتقام.
رابعًا: ينبغي للمصلح أن يختار من الكلام أحسنه ومن العبارات أرقها، وأن يبين للمتخاصمين حقارة الدنيا، فهي لا تستحق أن يتعادى من أجلها الإخوان، ولا أن تقطع الرحم والقرابة بسببها؛ فالدنيا زائلة، وكل من عليها فانٍ.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على الصلح بين المتخاصمين، واحذروا كل ما خالف الشرع من العادات في الإصلاح؛ فقد جاء في الحديث: ((الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا)).
أسأل الله أن يجعلنا جميعًا من الصالحين المصلحين، وأن يصلح ما فسد من أخلاقنا وأقوالنا، وأقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه كان للأوابين غفورًا.
الخطبة الثانية
الحمد لله أعز من أطاعه واتقاه، وأذل من أضاع أمره وعصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ومصطفاه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين؛ أما بعد:
عباد الله؛ أختم برسالة إلى كل مخاصم ومقاطع لأخيه المسلم، فأقول: اعلم أن عملك الصالح لا يُرفع إلى الله تعالى حتى تصطلح مع أخيك المسلم، وتزيل الشحناء من قلبك؛ ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلًا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيُقال: أنْظِروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا)).
هذا، وصلوا وسلموا على الهادي البشير والسراج المنير، كما أمركم بذلك العليم الخبير؛ فقال عز من قائل عليم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|