من صفات عباد الرحمن: التجاوب مع القرآن الكريم
الحمد لله الذي أنزل القرآن، وجعله رحمةً لأهل الإيمان، وأمرهم بالعمل به ليفوزوا بالفردوس والرضوان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكريم المنان، شهادةً نعْتقدُها بـقلوبنا ونَنطقها باللسان، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، كان خُلُقه القرآن، وكان يبين أن أهل القرآن مُكرمون في الجنان، اللهم صلِّ وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه أهل الهمم الحسان، وعلى من تبعهم إلى يوم الدين بإحسان ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18]،أما بعد:
فيا أيها المؤمنون والمؤمنات، نواصل الحديث عن صفات عباد الرحمن، الـمُكرَمين في الجنة أيَّما إكرام، ونرجو أن نكون منهم برحمة ربنا الكريم المنان.
إن من صفات عباد الرحمن: التجاوُبُ مع آيات القرآن الكريم، فما المقصود بالتجاوب مع القرآن الكريم؟ وكيف نكون متصفين بهذا الوصف الجليل؟
إن المقصود بالتجاوب مع القرآن هو: أن يخشع المؤمن عند سماع وتلاوة آياته، ويتدبرَ معانيه، ويحرص على العمل به، فيُحل حلاله، ويحرم حرامه، قال الله تعالى مادحًا عباد الرحمن: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ﴾ [الفرقان: 73]؛ والمعنى: أن المؤمنين الصادقين إذا وُعِظُوا بآيات القرآن، ودلائلِ وحدانية الله، لم يتغافلوا عنها، كأنهم صمٌّ لم يَسمعوها، وعُمْيٌ لم يُبصروها، بل وَعَتْها قلوبهم، وتفتَّحت لها بصائرهم، فخرُّوا لله ساجدين مطيعين[1].
وإن من أهم الوسائل العملية التي تجعلنا متصفين بهذه الصفة، وسيلتين:
الوسلية الأولى: تدبرُ القرآن، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم شأن عظيم في تدبر القرآن الكريم؛ ولذلك يتأثر تأثرًا عجيبًا، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118]، فرفع يديه وقال: ((اللهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي))، وَبَكَى، فقال الله عز وَجَلَّ: «يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلَا نَسُوءُكَ»[2].
فالذي دفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى البكاء هو تأثره بالموقف الذي تتحدث عنه الآية الكريمة؛ فهي تشير إلى يوم الحساب والجزاء، حين يؤمر بفريق إلى الجنة، وفريق إلى العذاب، تُرى يا عباد الله، هل بكى أحدنا يومًا، وهو يقرأ مثل هذه الآيات؟ فهنيئًا لمن خرجت من عينه قطرة دمع من خشية الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((عَيْنَانِ لا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ))[3].
الوسيلة الثانية: العمل بالقرآن الكريم، أنزل الله عز وجل القرآن لنعمل به، ومعنى العملِ به هو: أن نحل حلاله، ونحرم حرامه، ونأتمر بأوامره، وننتهي عن نواهيه، وقد كان للصحابة الكرام شأن عجيب في عملهم بالقرآن الكريم، يقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: كنا نتعلم العشر آيات من القرآن، فلا نجاوزها إلى غيرها حتى نعمل بها، فتعلمنا العلم والعمل جميعًا[4].
فالصحابة كانوا يسارعون إلى امتثال أوامر القرآن واجتناب نواهيه، فعندما نزل قول الله تعالى: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92]، قام سيدنا أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه إلى حديقة له، وكانت أحبَّ مالِه إليه، فتصدَّق بها في سبيل الله[5].
ولما نزلت آية الحجاب، قوله تعالى: ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾ [النور: 31]سارعت نساء الأنصار إلى قطع أثوابهن، وجعلن منها حجابًا؛ تنفيذًا لأمر الله تعالى[6].
وإن الناظر إلى مثل هذه القصص يرى أن هناك فرقًا كبيرًا بيننا وبين الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين؛ والسبب أنهم كانوا يسارعون إلى التطبيق العملي لآياته، ونحن فرطنا في هذا التطبيق العملي، إلا من رحم الله.
يصف الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه زمان الصحابة ويقارنه بزماننا فيقول: "إنا صَعُبَ علينا حفظ ألفاظ القرآن، وسَهُلَ علينا العمل به، وإن مَنْ بَعدنا يسهُل عليهم حفظ القرآن، ويصعب عليهم العمل به"[7].
فنحن في هذا العصر سهُل علينا حفظ القرآن؛ فأغلبنا يحفظ من القرآن ما شاء الله، حتى صار شبابنا يفوزون بجوائزِ الحفظ والتجويد في مختلف دول العالم، وهذا فضلٌ من الله يؤتيه من يشاء؛ لكن هل طبقنا في حياتنا العملية ما في القرآن الكريم مِن دِين؟ وأين هي آثاره في سلوكنا وأخلاقنا وتصرفاتنا ومعاملاتنا؟ هل أحللنا حلاله؟ هل حرمنا حرامه؟ هل امتثلنا أوامره؟ هل اجتنبنا نواهيه؟ يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: "إني أَخافُ يوم القيامة أَلَّا تَبْقَى آيَةٌ في كتاب الله إِلَّا أُخِذْتُ بِفَرِيضَتِها، تقول الْآمِرَةُ: هَلِ ائْتَمَرْتَ؟ وَالزَّاجِرَةُ: هَلِ ازْدَجَرْتَ؟ وَأَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَدُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ "[8].
فاللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يُسمَع يا رب العالمين، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبحديث سيد المرسلين، وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين، والحمد لله رب العالمين، ادعوا الله يستجب لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، وبعد:
عباد الله، إن الذي يقرأ القرآن ويعمل به، يكرمه الله ويعلي شأنه في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا تتنزل عليه الرحمات والبركات، وفي الآخرة ينال في الجنة أعلى الدرجات؛ بل إن فضله ليمتد ليشمل والديه أيضًا، فعن سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((مَنْ قَرَأَ القرآن وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ضَوْءُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا لَوْ كَانَتْ فِيكُمْ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِالَّذِي عَمِلَ بِهَذَا؟»[9].
فهذا الحديث يُبين مكانة وثوابَ قارئِ القرآن الذي يعمل به، حتى إن ثوابه لا يقتصر عليه وحده، بل يشمل والديه؛ لأنهما السببُ في صلاحه، إما عن طريق تعليمهما إياه القرآن، أو مساعدتهما له، وإما عن طريق دعائهما له، أو لأنهما ربَّياهُ تربيةً صالحةً، وأطعماه الطعام الحلال.
فاتقوا الله -عباد الله- واجتهدوا في تلاوة كتاب الله وتدبُّره والعمل به، وتوجيه أنفسكم وأبنائكم إلى العناية بالقرآن، تسعدوا في الدنيا والآخرة، فاللهم وفقنا جميعًا لطاعتك وطاعة رسولك يا رب العالمين.
هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على النبي الأمين، فقد أمركم بذلك مولانا الكريم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت وسلمت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
وارْضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة الأكرمين، خصوصًا الأنصار منهم والمهاجرين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهمَّ أصلِحْ لنا ديننا الذي هو عِصمة أمرنا، وأصلِحْ لنا دُنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا من كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كلِّ شرٍّ يا ربَّ العالمين، اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللَّهُمَّ إنا نسألكَ الجنةَ لنا ولوالدينا ولأشياخنا، ولمَن له حق علينا، ولجميع المسلمين والمسلمات، يارب العالمين، اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللَّهُمَّ إنا نسألكَ الجنةَ لنا ولوالدينا ولأشياخنا، ولمَن له حق علينا، ولجميع المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201]، ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180-182].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|