من صفات عباد الرحمن: التعوذ بالله من النار
الحمد لله الذي خلق الجنة وجعلها مُقامًا لأوليائه، سبحانه وتعالى خلق النار وجعلها مُستقرًّا لأعدائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في صفاته وأسمائه، شهادةً تكون لنا نجاةً وسلامًا يوم لقائِه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدُه ورسولُه خاتم رُسُله وأنبيائِه، كان يسأل اللهَ الجنَّةَ، ويستعيذُ به من النار في صلاته ودُعائه، اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّم عليه وعلى آله وأصحابِهِ وأصفيائه، وعلى كل مَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ ما اهتدى الناس بنور الإسلام وضيائِه ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، أما بعد:
فيا أيها المؤمنون والمؤمنات، إنَّ لله تعالى عبادًا مُكْرَمين، أحبَّهم الله وأكرمهم بدخول جنات النعيم، ونحن نتحدَّث عن أوصافهم، ونرجو أن نكون منهم بفضل ربِّنا الكريم.
فمن أوصاف عباد الرحمن؛ الخوفُ من النار، وسؤالُ اللهِ تعالى أن يحفظهم ممَّا فيها من العذاب، قال الله تعالى عنهم: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﴾ [الفرقان: 65، 66] والمعنى: "يدعون الله أن يَصرف عنهم عِقابه وعذابَه، حَذَرًا منه ووَجَلًا ﴿ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ﴾؛ أي: دائمًا لازمًا غير مفارق..."[1].
فهؤلاء العباد أيقنوا أن هذه الدنيا لا تدوم، وأنهم مهما عاشوا فإنهم مَيِّتون، وأنهم بعد الموت سيُبْعَثون، وبين يدي ربِّهم سيُحاسَبون، ثم يكون المصير إمَّا إلى الجنَّة وإمَّا إلى النار، وأي مُستقر أسوأ مستقرًّا من النار! وأي مُقام أسوأ مُقامًا من النار! ﴿ إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﴾ [الفرقان: 66].
أيها الإخوة، إن ذِكرَ نارِ جهنم وعذابِها، وشدتِها وأهوالِها، ذكرٌ يُوجِل القلوبَ ويُخِيفُها، ويُذرِف العيونَ ويُبْكِيها، قال الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]، فَحَطَبُها الذي تشتعل به؛ بنو آدم والحجارة، وملائكتها الزبانية؛ غلاظ القلوب، شداد الأبدان، لا يَرحمون إذا اسْتُرحِموا، خُلِقوا من الغضب، وحُبِّب إليهم عذابُ الخلق، كما حُبِّب لبني آدم أكلُ الطعام والشراب[2].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُوقِدَ عَلَى النَّارِ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ»[3] يَحترقُ بها العُصاةُ والمذنبون، ويُعانون فيها ويَتألَّمون، ولا تزيدهم الأيام إلَّا عذابًا وبؤسًا، وقُنوطًا ويأسًا، فيتَمنَّون ويرجُون العودة إلى الدنيا، ليتوبوا ويعملوا صالحًا، لكن هيهات هيهات، قال الله تعالى عنهم: ﴿ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ﴾ [المؤمنون: 107، 108]؛ ولذلك اشتدَّ خوف عباد الرحمن من النار، وما فيها من الأهوال، فيسألون الله تعالى السلامةَ منها والأمان، وفي مقدمة هؤلاء العباد؛ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقد غفر الله له ذنوبه ما تقدَّم منها وما تأخَّر، ومع ذلك كان يدعو كثيرًا، ويسألُ اللهَ الجنةَ، ويستعيذ به من النار، يقول أنس رضي الله عنه: «كان أكثرُ دعاءِ النبي صلى الله عليه وسلم «اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»[4].
ويُوجِّه النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين، إلى أن يدعوا الله في صلواتِهم، أن يحفظهم من عذاب جهنم، فيقول صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ أَرْبَعٍ يَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ))[5].
وكان عمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه شديدَ الخوف من عذاب النار، حتى إنه قال لابنه عبدِالله رضي الله عنه لما جاءه الموت -وقد كان رأسُ عمر على فخذه- قال له: ضع رأسي على الأرض، قال عبدالله: فوضعته على الأرض، فقال: «ويلي وويل أُمِّي إن لم يرحمني ربِّي»[6].. عمر بن الخطاب بَشَّره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة عدة مرات، وكان أهلًا لها إيمانًا وعملًا، وصلاحًا وتقوى وإحسانًا، ومع ذلك لا يأمنُ نفسَه من عذاب الله.
وبكى أبو هريرة رضي الله عنه في مرض موته، فقيل له: ما يُبكيك؟ فقال: "أما إني لا أبكي على دُنْياكم هذه، ولكن أبكي على بُعد سفري، وقِلَّة زادي، وإني أمسيت في صُعود على جنة أو نار، لا أدري إلى أيَّتِهما يُؤخذ بي"[7]، فإذا كان هذا الصحابي الجليل، الراوي لهذه الأمةِ كثيرًا من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول هذا الكلام، فماذا نقول نحن؟ وقد عظُمت ذنوبنا، فإلى الله المشتكى من أحوالنا.
وبكى عبدالله بنُ رواحة، عندما تجَهَّز جيشُ المسلمين للخروج إلى غزوة مؤتة، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: "أما والله، ما بي حبُّ الدنيا... ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله عز وجل يَذكر فيها النار ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 71، 72] فلستُ أدري كيف أُنقِذُ نفسي من النار بعد الوقوف عليها؟[8]... يا سبحان الله! يخاف من الوقوع في النار، وهو على أبواب الشهادة في سبيل الله، ونحن والله أولى بهذا الخوف منه.
فكان لزامًا علينا -أيها الكِرام- أن نتصفَ بهذه الصفة من صفات عباد الرحمن، ونخافَ من عقاب الله وعذابه، ونتوجَّه بدعاء الله وسؤاله، ونقول: ﴿ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ﴾ [الفرقان: 65]، نفعني الله وإيَّاكم بالقرآن العظيم وبحديث سيد المرسلين، وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين، والحمد لله ربِّ العالمين، ادعوا الله يستجِبْ لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أما بعد:
فيا عباد الله، أشرنا في الخطبة الأولى إلى بعض أوصافِ النار وأحوالِ أهلها، وكيف كان السلف الصالحُ يخافون منها؟ ويرجون من الله أن يحفظهم منها؟ ونحن نقتدي بهم ونتصفُ بصفاتهم ونَتَحَلَّى بها.
هذا وإن الخوف المحمودَ هو الذي يدفعنا إلى أمرين اثنين:
الأمر الأول: الدعاء، فنسألُ الله الجَنَّة، ونستعيذُ به من النار، فنقول: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201] وغيرها من الأدعية.
الأمر الثاني: العمل؛ فنتجنَّبُ كلَّ قول وعمل، وكلَّ معصية، وكل ذنب، يُقرِّبنا من النار، خاصة وأننا نعيش في عصر عامرٍ بالفتنِ والشهوات، والشرورِ والشُّبُهات، والفواحشِ والمُحرَّمات، لا يَسْلَم من الوقوع فيها إلا من جاهد نفسَه وألزمَها الطاعاتِ والعبادات.
ثم نتقرَّبُ إلى الله بكل عمل صالح، يقربنا من الجنة ويبعدنا عن النار، قال الله تعالى: ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 7 - 12] فنجَّاهم الله من النار، وأكرمهم بدخول الجنة، جزاء على أعمالهم الصالحة.
فنسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يُحَرِّم النار على أجسادِنا، وأجسادِ والِدِينا وأهلينا وجميعِ المسلمين والمسلمات يا رب العالمين.
هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على النبي الأمين، فقد أمركم بذلك مولانا الكريم ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، اللهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت وسلمت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|