المعية الخاصة
قال تعالى :﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾[سورة المائدة :12]
أيها الأخوة الكرام ؛ ما منا واحدٌ إلا ويتمنّى أن يكون الله معه ، لأنه إذا كان الله معك فمن عليك ؟ من يستطيع في الأرض أن ينال منك ؟ وإذا كان الله عليك فمن معك ؟ لا يوجد معك أحد ، أمّا إذا كان الله معك فلو أن الأمة بأكملها اجتمعت على أن يضروك بشيءٍ لم يستطيعوا ، وإذا تخلى الله عنك ، ولم يكن معك ، فأقرب الناس إليك ، ابنك الذي من صلبك ، زوجتك التي عشت معها أربعين عاماً ، تتخلى عنك ، إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان الله عليك فمن معك ؟
إذا كان الله معك ألقى حبك في قلوب العباد ، وإذا كان الله عليك ألقى بغضك في قلوب العباد .
يا أيها الأخوة ؛ الأقوياء يملكون القوالب ، لكن الأنبياء يملكون القلوب ، والبطولة الحقيقية في أن تملك قلوب الناس لا أن تملك أجسامهم ، القوي يخاف الناس منه ، لكن النبي يحبه الناس .
لذلك ما منا واحد إلا ويتمنى أن يكون الله معه .
المعية نوعان ؛ عامة وخاصة :
لكن هذه المعية قال عنها العلماء : إنها معيتان ؛ معيةٌ خاصة ، ومعيةٌ عامة
فما المعية العامة ؟
المعية العامة أن الله مع كل عباده ، مع الكفار ، مع الفجار ، مع الملحدين ، مع المنافقين ، مع العصاة ، مع المتجاوزين . في قوله تعالى :
﴿هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾
[سورة الحديد : 4]
مؤمن ، كافر ، مطيع ، عاصٍ ، هو معك ، بل قيامك به أبلغ من أنه معك .
الآن دققوا ، معية الله الخاصة ، تعني التوفيق والحفظ ، تعني التأييد والنصر ، إذا كان الله معك نصرك على أعدائك ، وإذا كان الله معك وكنت في عملٍ وفقك فيه ، وإذا كان الله معك حفظك من كل شر .
إذا كنت في كل حالٍ معي فعن حمل زادي أنا في غنى
فأنتم هو الحق لا غيركـــم فيا ليت شعري أنا مـن أنــا ؟
***
العلماء قالوا : المعية معيتان ؛ معيةٌ عامة ، ومعيةٌ خاصة ، المعية العامة تشير إلى الآية الكريمة :
﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾
لكن المعية الخاصة معية التأييد ، معية التوفيق ، معية الحفظ ، معية النصر ، معية السكينة ، يُلقي الله في قلبك السكينة ، تكون كالجبل الأشم لا تتزعزع ، هذه المعية الخاصة ، ممكن الحصول عليها ولكن بدفع ثمنها ، الآن بدأ الدرس .
المعية الخاصة التي نبحث عنها جميعاً متاحةٌ لكل إنسان ، بشرط أن تدفع ثمنها ، يا رب أين ثمنها ؟ أو يا رب من يملك ثمنها ؟ يقول الله : أنت أيها العبد تملك ثمنها ، ابدأ بهذه الآية :
﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً﴾
هذه العناصر التي اشتملت عليها الآية هي ثمن المعية الخاصة ، هذه ثمن المعية التي هي من أينع ثمار الدين ، وأجمل ما في الدين أنْ تشعر أن الله معك ، أعظم ما في الدين أن تشعر أنك مقربٌ إلى الله ، أعظم ما في الدين أن يتجلى الله على قلبك بالسكينة ، إن الله يعطي الصحة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من خلقه ، ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين ، حينما يتيه الناس أنت لا تتيه ، حينما يخاف الناس أنت لا تخاف ، حينما تنهار أعصاب الناس أنت لا تنهار ، حينما يشعر الناس بالحرمان أنت تشعر بالفوز والغنيمة ، حينما يخضع الناس أنت لا تخضع ، هذه معية الله الخاصة ، وثمنها تملكه أنت ، وهذه مفردات ثمنها ،
﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ ﴾
الصلاة عماد الدين ، فمن أقامها فقد أقام الدين ، ومن هدمها فقد هدم الدين .
ثمن المعية الخاصة :
1 ـ إقامة الصلاة :
ولكن يا أيها الأخوة ؛ الله قال : أقمتم الصلاة ، لمْ يقل الله عز وجل : إني معكم لئن صليتم ، فإذا قلنا : لئن صليتم ، بمعنى شخص دخل للمسجد توضأ وصلى ، هذه الصلاة ، أما :
﴿ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ ﴾
فانتبه لكلمة أقام البناء ، تحصل على رخصة أولاً ، وبعد مضي سنتين من الملاحقة تحصل عليها ، ثم حفرت الأساسات ، وبُني أول طابق ، والثاني ، والثالث ، ثم كسوتَه وفرشتَه ، فشغله سنوات حتى تمّ إنجازه ، من هنا نعلم أنّ إقامة الصلاة تبدأ قبل الصلاة ، إقامة الصلاة تبدأ بغض البصر ، إقامة الصلاة تبدأ بتحرير الدخل ، إقامة الصلاة تبدأ بأن يكون بيتك إسلامياً ، بأن تربي أولادك التربية الصحيحة ، أي أنت تعمل عملاً تستقيم معه على أمر الله، تصطلح معه ، تتوب إليه ، تنفق من مالك ، من أجل أنّك تصلي حقًّا إذا دخلت إلى المسجد، ففرقٌ كبير بين أن يقول الله عز وجل : إني معكم لئن صليتم ، وبين أنْ يقول :
﴿ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ ﴾
.
أحياناً إنسان يقدم امتحانًا في ثلاث ساعات ، يمنح دكتوراه ، إذْ تجري مناقشة أطروحته أمام لجنة من العلماء ، وبعد ثلاث ساعات مِن قراءة ملخص الأطروحة قال الدكتور المشرف رأيه في الموضوع ، واجتمعت اللجنة ، واتخذت قراراً بمنحه الدكتوراه بتقدير امتياز ، العملية تمت في ثلاث ساعات ، أما عملية تأليف الكتاب الذي تقدّم به الطالب لنيل الدكتوراه فتمّتْ في عشر سنوات ، فالدكتوراه لا تأتي في ساعات ثلاثة .
وإذا دخل شخصٌ المسجدَ وقام يصلي ، فهذه ليست صلاة ، قبل الصلاة لا بد من استقامة ، قبل الصلاة لا بد من توبة ، قبل الصلاة لا بد من صلح مع الله ، قبل الصلاة لا بدّ مِن إنابةٍ إلى الله ، قبل الصلاة تكون الأعمال الصالحة ، مِن إنفاق ونحوه ، الآن إذا دخلتَ لتصلي فهذه إقامة الصلاة .
2 ـ إيتاء الزكاة :
﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ﴾
إما أن نفهم أنّ إيتاء الزكاة دفعُ جزءٍ من المال كما هم معروف ، أو أن هذه الآية تعني مطلق العمل الصالح ، وهناك للعلماء استنباط ، سيدنا المسيح قال :
﴿وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً ﴾
[سورة مريم : 31]
بعضهم قال : هاتان الكلمتان جمعتا جوهر الدين ، الدين اتصال بالله الخالق ، وإحسانٌ إلى المخلوق ، هذا الدين .
هناك حركة أفقية وحركة شاقولية ، الأفقية إحسان للخلق ، والشاقولية اتصال بالحق .
﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ﴾
أقمتم الصلاة ، هذه الساعات في مناقشة الأطروحة ، ثم منح على إثرها الطالب دكتوراه بامتياز ، هذه سبقها عشر سنوات تحضير ، عشر سنوات تأليف ، فعندما يغضُّ الإنسان بصرَه في الطريق ، والطريق فيه كاسيات عاريات مائلات مميلات ، ويضبط لسانه ، يضبط أذنه ، يضبط بيته ، يضبط دخله وإنفاقه ، فإذا دخل ليصلي ، فإنّ هذا قد أقام الصلاة ، لكن إذا دخل فتوضأ وصلى ، وهو غارق في المعاصي والشبهات ، هذا نقول عنه : إنه صلى ، لا نقول : أقام الصلاة ، انتبه : أقام البناء أي عمل طويل ، شراء الأرض ، والحصول على رخصة ، وحفر الأساسات ، وبناء الهيكل ، ثم إكساء الهيكل ، ثم تزيين الهيكل ، ثم إكساء خارجي ، ثم فرش البيت ، فمثل ذلك إقامة الصلاة .
﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي﴾
أي آمنتم بأحقِّية هذا الشرع ، هذا هو النظام الأكمل ، هذا الذي فيه حل لمشكلاتنا ، أمّا أنْ تقول : الدين نغمة قديمة ، معنى ذلك أنك لا تعرف عن الدين شيئاً .
الدين منهج خالق الكون ، دستور الإنسان .
﴿ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ﴾
أنت عندما تصلي ، كأنْ تكون في نزهة وتقوم لتصلي ، فأنت نصرت دين الله عز وجل ، عندما تمتنع عن دخل مال حرام ، وغيرك لا يمتنع ، فقد نصرت دين الله عز وجل ، الله عز وجل لا يحتاج إلى أن تنصره ، ولا نبيُّه يحتاج إلى أن تنصره ، إلا أنك أقمت شعائر الدين ، ونفذت أمر الله عز وجل ، وسَّعت دائرة المؤمنين ، أمّا إذا كان الناس في نزهة ، وواحد قام فصلى وحده فلعله يستحيي بنفسه ، لكنْ إذا قام ثلاثة أو أربعة وصلوا ، فمَن الذي يستحيي ؟ الذي لم يقم ليصلي .
فإذا كان كل التجار يتعاملون بطريقة ربوية ، وأحبَّ تاجرٌ أنْ يستقيم فضحوه ، أمجنون أنت ؟ أما إذا كان الكلُّ مستقيمين أعطوا غطاء للمستقيم ، أنت عندما تطبق شرع الله عز وجل فإنك تدعم الدين ، وتنصره .
﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾
[سورة محمد : 7]
فإذا كانت الأسرة كل بناتها كاسيات عاريات ، فإذا أحببتَ أنت أن تحجب ابنتك ، أُقيم عليك النفير ، وشعرتَ بصعوبة بالغة ، أما إذا كان كل من حولك بناتهم محجبات ، صار الطريق لابنتك سهلاً ، انظري إلى ابنة خالتك ، وانظري إلى ابنة خالتك الثانية ، وإلى ابنة عمك أيضًا ، انظري إليهن جميعهن ، كلهن محجبات ، أنت عندما تطبق الدين ، وترسخ دعائمه ، يصير التطبيق سهلاً ، إذا كل الناس تخلوا عن الدين ، صار المؤمن غريبًا ، والغريب يواجه صعوبات ، يواجه عقبات ، يواجه اعتراضات ، هذا معنى قوله تعالى :
﴿ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ﴾
أي أيَّدتَ الرسول وطبقت أمر الله .
3 ـ القرض الحسن :
﴿ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً﴾
والله ما من كلمة تهز مشاعر المؤمن كهذه الكلمة ، خالق الأكوان ، الغني الحميد ، يقول لعبده : هل تقرضني قرضاً حسناً على أن أوفيك إياه بغير حساب يوم القيامة ؟ وأي عمل صالح تجاه أي مخلوق هو قرض حسن ، حقًّا أيّ عمل صالح تجاه أي مخلوق ، حتى ولو كان حيوانًا ، كما لو أنك سقيت كلباً ، أو أطعمت هرة ، أو أنقذت نملة في حوض الغسيل ، أنت تريد أنْ تتوضأ ، فتوقّفتَ إلى أن خرجت هذه النملة ، إذًا بعملك هذا أنقذت مخلوقاً ، وهذا قرض لله ، أقرضتَ الله قرضاً حسناً . وهذه آية أخرى :
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾
[سورة البقرة : 245]
إذا خدمتَ إنسانًا ، أو دللْتَه ، أو أعنتَه ، أو خفَّفْتَ عنه ، أو شفعت بين زوجين ، دللت على خير ، طلبت العلم ، أو علَّمته ، توسَطتَ في حلّ مشكلة ، كله قرض حسن ، فمعية الله التي لا تقدر بثمن ، ثمنها بيدنا جميعاً .
﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ﴾
إن دفعتم هذا الثمن .
﴿ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾
كل شيء كان يسوؤكم سوف تنسونه ، وتُفتح لكم صفحة جديدة .
معية الله هي التوفيق والنصر والتأييد :
﴿ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾
أنت تتمنى معية الله عز وجل ، أي التوفيق ، النصر ، التأييد ، الحياة الطيبة ، السعادة ، التجلي ، السكينة ، الوقار ، المكانة الاجتماعية ، أن يدافع الله عنك ، أن ينصرك على عدوك ، أن يؤيدك ، أن يقربك ، فما عليك إلا أنْ تلتزم بنص الآية مع التنفيذ ،والإيمان بالمنهج ، وتأييد الرسل بتطبيق تعليماتهم ، عندئذ الماضي الحالك كله يشطب ، وتفتح صفحة جديدة ، والمستقبل هو الجنة وما فيها من نعيم مقيم .
راتب النابلسي
موسوعة النابلسى للعلوم الاسلامية
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|