الفرح المحمود والمذموم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:أودع الله تعالى في النفس البشرية خِصالاً جبلِّية؛ كالضحك والبكاء، والقوة والضعف، والرغبة والرهبة، والذلة والعزة، والفرح والغضب، ونحوها، وحديثنا يتجه نحو الفرح الذي يُقابله الحزن والكآبة.
ويُعرَّف الفرح بأنه السرور، وضده السُّخْط، يقال: رجل مِفْراح أي: كثير الفَرَح. واللهُ تعالى - بقسطه وعدله - جعل الفرحَ والروح في الرضا واليقين، وجعل الهمَّ والحزن في السخط والشك، فالساخط والشاك لا يذوق للفرح طعماً، فحياته كلها سواد ممتد، وليل حالك لا يعقبه نهار، فهو دائم الكآبة.
والفرح فرحان: فرح محمود وفرح مذموم، والله تعالى ندب المؤمنين والمؤمنات إلى أن يفرحوا بما يُحمد من الأمور والأعمال الظاهرة والباطنة، ونهاهم أن يفرحوا بزخرف الدنيا ومتاع الحياة الزائل: ï´؟ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ ï´¾ [الرعد: 26]. أي: فرحوا بالحياة الدنيا فرحاً؛ أوجب لهم الاطمئنان بها، والغفلة عن الآخرة، وذلك لنقصان عقولهم. وقد حذر الله تعالى من الفرح بغير الحق بقوله: ï´؟ ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ï´¾ [غافر: 75]. كانوا يفرحون في الأرض بالشرك والمعاصي، ويمرحون بالتوسع في الفرح؛ لأن المرح هو شدة الفرح. ومما جاء في الفرق بينهما؛ أن الفرح: انفعال نفساني بالمسرة ورضى الإنسان عن أحواله. والمرح: ما يَظهر على الفارح من الحركات في مشيه ونظره، ومعاملته مع الناس، وكلامه، وتكبره، فهو هيئة ظاهرية.
وفي المقابل: أمرنا الله تعالى بالفرح بالأمور العظيمة المتعلقة بمرضاة الله والدار الآخرة الباقية، قال سبحانه: ï´؟ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ï´¾ [يونس: 58] فالعاقل هو الذي يفرح بثابت وباقي، ويكون فرحه تبعاً لرضا الله تعالى.
عباد الله.. إنَّ الفرح صفة كمال لله تعالى تليق بجلاله سبحانه وتعالى، وهي في منتهى الكمال، فقد جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ، مِنْ أَحَدِكُمْ بِضَالَّتِهِ؛ إِذَا وَجَدَهَا» رواه مسلم. ففي الحديث: حث على التوبة؛ لأن الله سبحانه يحبها، وهي من مصلحة العبد. وفيه: إثبات الفرح لله عز وجل، فهو سبحانه وتعالى يفرح ويغضب، ويَكره ويُحب، لكن هذه الصفات ليست كصفات المخلوقين ï´؟ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ï´¾ [الشورى: 11] إذاً فرح الله تعالى فرح يليق بعظمته وجلاله، ولا يُشبه فرح المخلوقين.
وكثير من الناس يُنعم الله تعالى عليهم بنعمٍ شتَّى، ولكنهم لا يلتزمون السكينة حال الفرح؛ بل يتجاوزون في ذلك إلى ما لا يُحبه الله تعالى؛ كما قال قوم قارون له: ï´؟ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ï´¾ [القصص: 76]. فالله تعالى لا يُحب الفرحَ الذي ينقلب إلى فسقٍ وفجور، وفسادٍ واعتداء، وإنما المطلوب هو الفرح المعتدل المنضبط بضوابط الشرع والعقل، فالإنسان في حال الفرح محتاج إلى السكينة؛ لئلاَّ يتحوَّل فرحه إلى فرح يُبغضه الله تعالى، ولا يُحبه ولا يحب أهله.
وقدوتنا هو النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي كان فرحه منضبطاً بضوابط الشرع الحنيف، فليس بالضَّاحِك الذي أسرف على نفسه، وليس بالذي تقمَّص شخصية الحزن والكآبة، فهو وسطٌ في الحزن والفرح، وفي كل شيء، وكان ضَحِكُه صلى الله عليه وسلم ابتساماً، وكان يبتسم كثيراً، والضحك نادر في حياته، وأكبر ضَحِكِه - كما ورد في الحديث - أنه «ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ» رواه البخاري ومسلم.
قال جرير بن عبد الله - رضي الله عنه: «مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلاَ رَآنِي إِلاَّ تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي» رواه البخاري ومسلم. فالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم اشترى بهذا التبسُّم قلوبَ الناس والقبائل والشعوب، قال الله تعالى: ï´؟ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ï´¾ [آل عمران: 159].
عباد الله.. ومن هنا نعلم أن الفرح المحمود هو الفرح بنعمة الله تعالى وتوفيقه للطاعات والقربات، أو بانتصار الحق على الباطل؛ كما قال سبحانه: ï´؟ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ï´¾ [الروم: 4، 5].
ومن ذلك فرح الصائم بفطره - الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا؛ إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ» رواه البخاري. فالفرحة الأُولى فرحة دنيوية عاجلة؛ حيث أباح الله له الأكل والشرب والجماع فقد تركهم طاعةً لله تعالى، وفَرِحَ أيضاً لأن الله تعالى وفَّقه لإتمام صيام ذلك اليوم، وأما الفرحة الكبرى فهي عند لقاء ربه تبارك وتعالى، نسأل الله تعالى من فضله ورحمته، وكرمه وإحسانه.
والمؤمن يفرح أيضاً ويبتهج: إذا نال نعمةً خالصة أو أمنية تُعينه على طاعة الله تعالى، أو مَنَّ الله تعالى عليه بتمام الصحة والعافية، أو بنعمة الولد، أو رَزَقَه رزقاً حلالاً من حيث لا يحتسب، لكنه يعمر فرحته بذكر الله تعالى الذي أتمَّ عليه هذه النعمة والمنة، ورَزَقه من الطيبات، وهيأ له كثيراً من أسباب البهجة والسرور.
إخوتي الكرام.. وأعظم من ذلك كله: فَرَحُ الصالحون والصالحات بالابتلاء - مع عدم تمنِّيهم له ابتداءً - لما يُفضي إليه من محو للسيئات، ورفع للدرجات، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُهُمْ إِلاَّ الْعَبَاءَةَ يُحَوِّيهَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلاَءِ كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ» صحيح - رواه ابن ماجه.
قال ابن القيم - رحمه الله: (ولو رُزِقَ العبد من المعرفة حظاً وافراً؛ لَعَدَّ المنعَ نعمة، والبلاءَ رحمة، وتلذَّذ بالبلاء أكثر من لذته بالعافية، وتلذذ بالفقر أكثر من لذته بالغنى، وكان في حال القلة أعظم شكراً من حال الكثرة. وهذه كانت حال السلف).
ومن مظاهر الفرح المحمود: فرح المؤمن بشريعة ربه، وأمْرِه ونهيه، وعدم التقديم بين يديه الله سبحانه، ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فهو يفرح أشد الفرح إن كان مِمَّن عناه الله تعالى بقوله: ï´؟ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ï´¾ [النور: 51]. ومِمَّنْ قال الله تعالى فيهم: ï´؟ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ï´¾ [الرعد: 36].
إنَّ من أعظم الفرح: أن يفرح المسلم حينما يُسلم عبد أو يتوب عاصٍ؛ كما فرح الصحابة - رضي الله عنهم - بإسلام الفارق - رضي الله عنه - أو غيره من الصحابة، قال أبو هريرة - رضي الله عنه: كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الإِسْلاَمِ - وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا، فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَكْرَهُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَبْكِي، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الإِسْلاَمِ فَتَأْبَى عَلَيَّ، فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ؛ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ». فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ فَإِذَا هُوَ مُجَافٌ، فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ، فَقَالَتْ: مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ. وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ، قَالَ: فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا، وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا، فَفَتَحَتِ الْبَابَ، ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَبْشِرْ، قَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَكَ، وَهَدَى أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ. رواه مسلم.
أيها المسلمون.. إنَّ الفرح المذموم هو الذي يُوَلِّد الأشر والبطر؛ كما يحصل في بعض الأعراس أو الاحتفالات والمناسبات، فمثل هذا الفرح المذموم لا يُرضي الله تعالى؛ إذ يتجاوز فيه الفِرحون إلى المعاصي والمنكرات، والتي تكون وبالاً على أصحابها في الدنيا والآخرة، وليس من شأن المسلم أن يكون مِفراحاً إلى درجة الإسراف.
وأسوأ من ذلك: فَرَحُ المرء بعمله الصالح وإظهاره للناس والتسميع والمراءاة به، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ سَمَّعَ؛ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ رَاءَى؛ رَاءَى اللَّهُ بِهِ» رواه مسلم.
ويشتد الأمر خطورة: حينما يفرح الإنسان بما لم يفعل، من باب الرياء والتكبر، ففي مثل هؤلاء يقول الله تعالى: ï´؟ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ï´¾ [آل عمران: 188].
ومثل ذلك في الخطورة: فَرَحُ الإنسان بتقصيره في طاعة الله، أو بتخلُّفِه عن ركب الصلاح والاستقامة ï´؟ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ï´¾ [التوبة: 81، 82].