كان ابن سينا الأكثر تأثيرا بين جميع علماء الفلاسفة المسلمين، وكتب في الطب والهندسة والفلك والحساب والموسيقى، ونعرف الكثير من تفاصيل حياته لأنه كتب سيرته الذاتية التي تم استكمالها بمواد من سيرة ذاتية كتبها أحد طلابه، والسيرة الذاتية ليست مجرد سرد لحياته، بل هي مكتوبة لتوضيح أفكاره للوصول إلى الحقيقة المطلقة، لذلك يجب تفسيرها بعناية.
حياة ابن سينا المبكرة:
سيطرت على مجرى حياة ابن سينا فترة عدم الإستقرار السياسي الكبير التي عاش خلالها، والسلالة السامانية هي أول سلالة نشأت في إيران بعد الفتح العربي الإسلامي، وسيطرت على ما وراء النهر وخراسان من حوالي 900، وكانت بخارى عاصمتهم وكانت مع سمرقند، والمراكز الثقافية للإمبراطورية، ومع ذلك، منذ منتصف القرن العاشر، بدأت قوة السامانيين في الضعف، وبحلول الوقت الذي ولد فيه ابن سينا كان نوح بن منصور هو السلطان في بخارى لكنه كان يكافح من أجل الإحتفاظ بالسيطرة على الإمبراطورية.
كان والد ابن سينا والي قرية في إحدى أملاك نوح بن منصور، وتلقى تعليمه من قبل والده، الذي كان منزله مكانا للقاء رجال التعليم في المنطقة، والتأكيد كان ابن سينا طفلا مميزا، وله ذاكرة وقدرة على التعلم الأمر الذي أذهل العلماء الذين التقوا في منزل والده، وفي سن العاشرة كان قد حفظ القرآن ومعظم الشعر العربي الذي قرأه، وعندما بلغ ابن سينا سن الثالثة عشرة بدأ دراسة الطب وأتقن هذا الموضوع في سن السادسة عشرة عندما بدأ علاج المرضى، كما درس المنطق والميتافيزيقا، وتلقى تعليمات من بعض أفضل المعلمين في عصره، لكنه واصل دراسته بمفرده في جميع المجالات.
بعد فترة من التجوال، ذهب ابن سينا إلى همدان في غرب وسط إيران، وهناك استقر لفترة ليصبح طبيبا في المحكمة، وعينه الأمير البويدي الحاكم شمس الدولة وزيرا مرتين، ولم تكن السياسة سهلة في ذلك الوقت، وقد أجبر خصومه السياسيون ابن سينا على الإختباء لبعض الوقت، كما أمضى بعض الوقت كسجين سياسي في السجن.
أهم أعمال ابن سينا:
أهم عملين لابن سينا هما كتاب الشفاء وقانون الطب، والأول كان موسوعة علمية تغطي المنطق والعلوم الطبيعية وعلم النفس والهندسة والفلك والحساب والموسيقى، والثاني هو أشهر كتاب منفرد في تاريخ الطب، وقد ابتدأ هذه الأعمال وهو في همدان، وبعد أن سجن، قرر ابن سينا مغادرة همدان عام 1022 بعد وفاة الأمير البويدي الذي كان يخدمه، وسافر إلى أصفهان، وهنا دخل بلاط الأمير المحلي وقضى السنوات الأخيرة من حياته في سلام نسبي.
وفي أصفهان أكمل أعماله الرئيسية التي بدأت في همدان، كما كتب العديد من الأعمال الأخرى في الفلسفة والطب واللغة العربية، وخلال الحملات العسكرية، كان من المتوقع أن يرافق ابن سينا راعيه، وقد تم تأليف العديد من أعماله في مثل هذه الحملات، ولقد أصيب بالمرض في إحدى هذه الحملات العسكرية، وعلى الرغم من محاولته تطبيق مهاراته الطبية على نفسه، فقد مات.
ارث ابن سينا:
كتب ابن سينا حوالي 450 عملا، نجا حوالي 240 منها، ومن بين الأعمال الباقية 150 عن الفلسفة و40 مخصصة للطب، وهما المجالان اللذان ساهم فيهما أكثر من غيرهما، كما كتب في علم النفس والجيولوجيا والرياضيات والفلك والمنطق، ولكن أهم أعماله فيما يتعلق بالرياضيات هو كتابه الموسوعي الهائل كتاب الشفاء، وقد تم تخصيص جزء من الأجزاء الأربعة لهذا العمل للرياضيات، ويتضمن ابن سينا علم الفلك والموسيقى كفرع للرياضيات ضمن الموسوعة، وفي الواقع، قام بتقسيم الرياضيات إلى أربعة فروع، الهندسة، وعلم الفلك، والحساب، والموسيقى، ثم قام بعد ذلك بتقسيم كل من هذه الموضوعات، وقسم الهندسة إلى الجيوديسيا، والإحصاءات، وعلم الحركة، و الهيدروستاتيكا، والبصريات.
ليس من المستغرب أن القسم الهندسي من الموسوعة يعتمد على عناصر إقليدس، ويقدم ابن سينا البراهين ولكن العرض يفتقر إلى الصرامة التي اعتمدها إقليدس، وفي الواقع، لا يقدم ابن سينا الهندسة كنظام استنتاجي من البديهيات في هذا العمل، ومع ذلك، يجب أن نلاحظ أن هذه هي الطريقة التي اختارها ابن سينا لعرض الموضوع في الموسوعة، وفي كتابات أخرى عن الهندسة حاول مثل العديد من العلماء المسلمين أن يقدم دليلا على الفرضية الخامسة لإقليدس، والموضوعات التي تم تناولها في قسم الهندسة من الموسوعة هي الخطوط والزوايا والمستويات والمتوازيات.
قدم ابن سينا ملاحظات فلكية ونعلم أن بعضها تم في أصفهان والبعض الآخر في همدان، وقام بعدة استنتاجات صحيحة من ملاحظاته، فعلى سبيل المثال، لاحظ كوكب الزهرة على أنه بقعة على سطح الشمس واستنتج بشكل صحيح أن الزهرة يجب أن تكون أقرب إلى الأرض من الشمس، وتمت مناقشة هذه الملاحظة وأعمال ابن سينا الأخرى، واخترع ابن سينا أداة لمراقبة إحداثيات نجم، ومن مساهمات ابن سينا الأخرى في علم الفلك محاولته حساب الفرق في خط الطول بين بغداد وجورجان من خلال مراقبة خط الزوال للقمر في جورجان، كما صرح بشكل صحيح، بأي تبرير يصعب رؤيته أن سرعة الضوء محدودة.
نظرا لأن ابن سينا اعتبر الموسيقى أحد فروع الرياضيات، فمن المناسب إعطاء إشارة موجزة عن عمله في هذا الموضوع والذي كان بشكل أساسي على فترات التوتر والأنماط الإيقاعية والآلات الموسيقية، ويزعم بعض الخبراء أن ترقية ابن سينا لاتساق الثلث الرئيسي أدى إلى استخدام التنغيم العادل بدلا من التنغيم المرتبط بفيثاغورس، ونظرا لمساهمات ابن سينا الرئيسية في الفلسفة، يجب أن نذكر على الأقل عمله في هذا المجال، على الرغم من أننا بالتأكيد لن نخصص المساحة التي يستحقها هذا العمل له، وناقش العقل والواقع، والفهم المعقول، ويلزم وجود كل من السبب والمنطق.
يعطي ابن سينا نظرية للمعرفة تصف التجريد في إدراك الشيء بدلا من الشكل الملموس للموضوع نفسه، وفي الميتافيزيقيا فحص ابن سينا الوجود، كما إنه يعتبر النظرية العلمية والرياضية للعالم والسببية النهائية من قبل الله، كما أنه سعى ابن سينا إلى دمج جميع جوانب العلم والدين في رؤية ميتافيزيقية كبرى، وبهذه الرؤية حاول شرح تكوين الكون وكذلك توضيح مشاكل الشر والصلاة والعناية الإلهية والنبوءات و المعجزات والعجائب، كما تندرج ضمن نطاقها المشاكل المتعلقة بتنظيم الدولة وفقا للقانون الديني ومسألة المصير النهائي للإنسان.
ابن سينا والبيروني:
من المعروف أن ابن سينا تقابل مع البيروني، وتم إعطاء ثمانية عشر رسالة أرسلها إبن سينا إلى البيروني ردا على الأسئلة التي طرحها، وتغطي هذه الرسائل موضوعات مثل الفلسفة وعلم الفلك والفيزياء، وهناك مراسلات أخرى من ابن سينا تم حفظها وتم مسحها في المقال، وتتضمن موضوعات هذه الرسائل حججا ضد اللاهوتيين وأولئك الذين يدعون قوى سحرية، ودحض آراء أولئك الذين لديهم مصلحة سطحية في فرع من فروع المعرفة، ويكتب ابن سينا عن موضوعات معينة في الفلسفة، ويكتب رسائل للطلاب الذين لا بد أنهم طلبوا منه شرح الصعوبات التي واجهوها في بعض النصوص الكلاسيكية، ورأى الكثيرون أن ابن سينا يروج لعلم الطبيعة ويجادل ضد رجال الدين الذين يحاولون إخفاء الحقيقة