تفسير سورة المعارج كاملة
♦ من الآية 1 إلى الآية 4:﴿ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ ﴾: أي دَعا داعٍ من المُشرِكين بنزول العذاب على نفسه وعلى قومه، عندما قال: ( اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، فأخبَر سبحانه أن هذا العذاب واقعٌ بالكافرينَ يوم القيامة لا مَحالة، و﴿ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ﴾ أي ليس له مانعٌ يَمنعه مِن الله ذي العُلُوّ والجلال، إذ﴿ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ﴾: أي تصعد الملائكة - ويَصعد معهم الروح الأمين (جبريل) - إلى الله سبحانه ﴿ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ مِن سنوات الدنيا (والراجح من أقوال العلماء أن هذا الصعود يحدث يوم القيامة، الذي جعله الله على الكافرين مِقدار خمسين ألف سنة، وجعله على المؤمن كقدر ما بين الظهر والعصر) (انظر صحيح الجامع حديث رقم: 8193)، فيكون صعود الملائكة في هذا اليوم إلى الأماكن التي حَدَّدها الله لهم أن يستقروا فيها يوم القيامة، واللهُ أعلم.
♦ من الآية 5 إلى الآية 18:﴿ فَاصْبِرْ ﴾ أيها الرسول على استهزائهم واستعجالهم بالعذاب ﴿ صَبْرًا جَمِيلًا ﴾: أي صبرًا لا تَسَخُّطَ فيه ولا شكوى معه لأحدٍ من الخَلق، ﴿ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ﴾: يعني إن الكافرين يَستبعدون العذاب ويرونه غير واقع،﴿ وَنَرَاهُ قَرِيبًا ﴾ أي: ونحن نراه واقعًا قريبًا (فإنّ كل آتٍ قريب) ﴿ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ﴾ أي يوم تكون السماء سائلة كالمَعْدن الذي يذوب بسبب شدة السخونة،﴿ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ﴾ أي: وتكون الجبال كالصوف المصبوغ المنفوش (الذي نسفته الريح)،﴿ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ﴾ يعني: وفي ذلك اليوم لا يسأل قريبٌ قريبه عن شأنه؛ ولا يسأله أن يحمل عنه ذنبه، لأنّ كل واحدٍ منهما مشغولٌ بنفسه، رغم أنهم﴿ يُبَصَّرُونَهُمْ ﴾ أي يرونهم ويعرفونهم (ولكن لا يستطيع أحدٌ أن ينفع أحدًا)، ﴿ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ﴾: أي يتمنى الكافر لو يَفدي نفسه من عذاب يوم القيامة بأبنائه، الذين كان يخافُ عليهم في الدنيا أكثر مما يخاف على نفسه (فما أفظع هذا العذاب، الذي يُضَحِّي الإنسان بابنه مِن أجل أن ينجو منه)،﴿ وَصَاحِبَتِهِ ﴾ أي: وبزوجته ﴿ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ﴾ أي: وبعشيرته التي تضمه إليها نسباً، وتحميه من أعداءه، وتساعده في شدته، ﴿ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ يعني: وبجميع مَن في الأرض مِنَ البشر وغيرهم ﴿ ثُمَّ يُنْجِيهِ ﴾ أي: ثم ينجو هو من هذا العذاب،﴿ كَلَّا ﴾: أي لا قرابة تنفع ولا فداءَ يُقبَل (في ذلك اليوم) ﴿ إِنَّهَا لَظَى ﴾ يعني إنما الذي في انتظاره: جهنم التي تتلظى نارُها (أي تلتهب بشدة)،﴿ نَزَّاعَةً لِلشَّوَى ﴾: أي تنزع جلدة الرأس (لشدّة حرارتها)، وإنها ﴿ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ﴾ أي تنادي - يوم القيامة - مَن أعرض عن الحق في الدنيا، وتَرَكَ طاعة الله ورسوله﴿ وَجَمَعَ فَأَوْعَى ﴾ أي جَمَعَ المال، فوضعه في خزائنه، ولم يؤدِّ حق الله فيه، (واعلم أنّ مَعنى (أَوْعى) أي جعل المال في وعاء، كالخزائن وغيرها، واعلم أيضاً أنّ الذي تناديه جهنم: يُدفَع إليها دَفعاً، كما قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا﴾، نسأل اللهَ العافية من جهنم).
♦ من الآية 19 إلى الآية 35:﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴾ أي شديد الخوف والفزع (فلا يَصبر على المصائب، ويَخاف أن يُنفِق مما أعطاه الله له)، فـ﴿ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ﴾ يعني إذا أصابه مكروه: كانَ كثير السَخَط والحزن،﴿ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴾ يعني: وإذا أصابه الخير: كانَ كثير المنع بما في يديه ﴿ إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴾يعني إلا المُقِيمينَ لصلاتهم على أتمّ وجوهها، فإنّ اللهَ يُنَجّيهم من هذا السَخَط وهذا البُخل، إذا تمسَّكوا بهذه الصفات الآتية: ﴿ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴾ أي يُداومونَ على أدائها ما داموا أحياء، ولا يَشْغَلهم عنها شاغل،﴿ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ﴾ يعني: في أموالهم نصيبٌ معيَّن، فرضه الله عليهم (وهو الزكاة)، فيُعطونه﴿ لِلسَّائِلِ ﴾ وهو الذي يسأل الناس لشدة حاجته وفقره ﴿ وَالْمَحْرُومِ ﴾ وهو المُحتاج الذي يَستحي أن يسأل الناس،﴿ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴾ أي يُصَدّقون بيوم الحساب والجزاء، ويستعدون له بالأعمال الصالحة،﴿ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ﴾ أي خائفونَ من عذاب الله تعالى (ولذلك يُكثِرونَ من الاستغفار والندم على ما مَضَى من ذنوبهم، حتى يُنَجّيهم سبحانه من عذابه، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾، ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ﴾ أي لا ينبغي أن يأمنه أحد،﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴾أي يَحفظون فروجهم مما حرَّم اللهُ تعالى ﴿ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ ﴾ أي زوجاتهم﴿ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ وهُنّ الجواري المملوكات لهم شَرعاً ﴿ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴾ أي: فلا لومَ عليهم في جماعهنّ; لأنّ اللهَ قد أحلَّهنّ لهم،﴿ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾يعني: فمَن طلب التمتع بغير زوجته أو جاريته، فهو من المُتَعَدِّينَ لحدود الله تعالى، المُتجاوزينَ الحلالَ إلى الحرام، المُعَرِّضينَ أنفسهم لغضب اللهِ وعقابه، ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ أي يُحافظونَ على ما كل اؤتمنوا عليه (مِن سِرّ أو عمل أو مال أو غير ذلك)، (ومِن ذلك: مُحافظتهم على التكاليف الشرعية التي أمَرَهم اللهُ بها)، وهُم الذين يُوفُّون بكل عهودهم مع الله تعالى، ووعودهم وعقودهم مع الناس،﴿ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ﴾ أي يؤدُّون شهاداتهم بالحق دونَ تغيير أو كتمان، ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾: أي يُحافظون على أداء الصلاة في أوقاتها - بشروطها وأركانها - وعلى هيئتها الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم (في خشوعٍ واطمئنان)، ﴿ أُولَئِكَ ﴾ - المتصفون بهذه الصفات - سوف يَستقرون يوم القيامة ﴿ فِي جَنَّاتٍ ﴾ أي في حدائق جميلة المنظر (فيها كل ما تشتهيه النفوس وتَسعد برؤيته العيون)، وهم ﴿ مُكْرَمُونَ ﴾ بإكرام الله لهم بأصناف المُتَع والشهوات.
♦ ولَعَلَّ اللهَ تعالى بدأ هذه الصفات السابقة بالصلاة، وخَتَمَها أيضاً بالصلاة، للإشارة إلى أن الصلاة الخاشعة هي سبب استقامة العبد على الطريق الصحيح الموصل إلى الجنة، كما قال تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)، هذا إذا أداها العبد - كما أمَرَه الله تعالى - بخشوعٍ (أي بِذُلٍّ وانكسار، أمام المَلِك الجبار).
♦ من الآية 36 إلى الآية 41: ﴿ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ﴾: يعني فأيُّ شيءٍ دفع هؤلاء الكفار إلى أن يَسيروا مُسرعينَ نَحْوك أيها الرسول؟!،﴿ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ ﴾ أي يتجمعون عن يمينك وعن شمالك، وهُم ﴿ عِزِينَ ﴾ أي على شكل حَلقات متعددة، وهم يستمعون إلى قراءتك (باحثينَ عن أيّ كلمة يَسخرون بها من دعوتك)، ويقولونَ - في استهزاءٍ بالمؤمنين -: (لئنْ دَخَلَ هؤلاء الجنة لنَدخُلنّها قبلهم)، فرَدَّ اللهُ عليهم قائلاً: ﴿ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ﴾؟! ﴿ كَلَّا ﴾ أي ليس الأمر كما يَطمعون، فإنهم لا يدخلونها أبدًا، فـ﴿ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ﴾ (وهو ماء الذَكَر)، ومع ذلك فقد جحدوا بتوحيد ربهم الذي خَلَقهم، وجحدوا بقدرته على بَعْثهم بعد موتهم، فمِن أين يَتشرفون بدخول جنته؟!
♦ ثم قال تعالى:﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ﴾: يعني فأُقسِم برب مَشارق الشمس والكواكب، ومَغاربها جميعاً: ﴿ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ ﴾ أي قادرونَ على أن نُهلكهم ونأتي بأناسٍ خير منهم (يطيعون الله تعالى ولا يُشرِكونَ به)،﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴾ يعني: ولا أحد يستطيع أن يَفوت ويَهرب من عذابنا، أو يُعِجزنا إذا أردنا أن نعيده حَيّاً بعد موته، (واعلم أنّ (لا) التي في قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ) تُسَمَّى (لا الزائدة) لتأكيد القسم).
♦ من الآية 42 إلى الآية 44: ﴿ فَذَرْهُمْ ﴾: أي اترك هؤلاء المُشرِكين ﴿ يَخُوضُوا ﴾ في باطلهم، ﴿ وَيَلْعَبُوا ﴾ في دُنياهم ﴿ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ﴾ أي الذي يُوعدون فيه بالعذاب (وهو يوم القيامة) ﴿ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا ﴾: أي يوم يخرجون من قبورهم مُسرعينَ إلى أرض المَحشر ﴿ كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ﴾ أي كما كانوا في الدنيا يَذهبون مُسرعينَ إلى أصنامهم التي صنعوها بأيديهم، (واعلم أنّ (النُصُب) مُفرَد (الأنصاب)، وهي الأصنام والأحجار المنصوبة التي تُعبَد من دون الله تعالى، والتي كان المُشرِكون يذبحون عندها تعظيمًا لها)، فجعلهم الله يُسرِعون يوم القيامة وهم يُدفَعونَ بعنف إلى الحساب، جزاءً لهم على إسراعهم في الدنيا لأصنامهم.
♦ وتراهم يوم القيامة ﴿ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ ﴾: يعني أبصارهم ذليلة منكسرة إلى الأرض، و﴿ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾: أي يُغطي وجوههم ذلٌ وكآبة، ﴿ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ﴾ أي الذي كانوا يوعدونَ به في الدنيا، وكانوا به يستهزؤون ويُكَذِّبون.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|