أهمية الإصلاح بين المتخاصمين
عباد الله، مشكلة اجتماعية تطلُّ برأسها بين حين وآخر، وتسبِّب بين أفرادها كثيرًا من المشاكل، وقد تصل ترسُّباتها إلى ارتكاب جرائم عظيمة ومخالفات جسيمة، ولها أضرارها على مجتمعاتنا يومًا بعد يوم إن لم نسارع بحَلِّها والتخفيف منها.
ولعلكم عبر وسائل التواصل وفي مواقع الأخبار تشاهدون مقاطع لهذه المشكلة، تبدأ بشيء تافه وتنتهي بقاصمة الظهر، ونقرأ تقاريرَ عن بيوت هُدِم كيانُها وضاع أفرادها بسبب تلك المشكلة.
ومن يَزُر المحاكم والشُّرط يجدها تعجُّ بالمئات من تلك القضايا التي آلت في النهاية إلى ردهات المحاكم والسجون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أتدرون ما هي تلك المشكلة؟ إنها الخصومة التي تطرأ بين فردين أو أكثر، ثم لا تلبث أن تنتهي بمصيبة مفجعة، ونهاية لم تكن في الحسبان، وقد يكون الموقف الذي نشأ عنه الخصام تافهًا، وقد لا تستغرق الحادثة بضع دقائق.إن الشيطان قد يئس أن يُعبَد في أرض الجزيرة؛ ولكنه كرَّس جهده في التحريش بين الناس، فأين أهل العقول؟
أتدرون ما خاتمة تلك الخصومات غالبًا؟
اعتداء على النفس بالضرب، وتصل إلى القتل في أحيان كثيرة، والله جل وعلا يقول: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93].
خاتمة تلك الخصومات: قذف وسب وفجور في الخصومة، وهي علامة من علامات النفاق، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "آيةُ المنافِقِ ثلاث: وذكر منها "وإذَا خَاصَمَ فَجَر".
فالفاجر في الخصومة -عباد الله- لا أمان له ولا ستر لديه، فيه طبع اللئام؛ فإن اختلفت معه في شيءٍ حقير كشف أسرارك وهتك أستارك، وأظهر الماضي والحاضر.
فكم من صديقٍ كشف ستر صاحبه بسبب خلف محتقر، وكم من زوجة لم تُبقِ سرًّا لزوجها ولم تذر بسبب خلف على نقصان ملح في طعام أو كسوة أو نحو ذلك.
ولما كان النفاق لؤمًا صار الفجور في الخصومة ثلث هذا اللؤم؛ فيجمع دمامة طبع ولؤم لسان، وكذلك اللؤم تتبعه الدمامة.
ليس العيب في مجرد الخصومة؛ إذ هي واقعٌ لا مناص منه في النفوس والعقول والأموال والأعراض والدين؛ إذ من ذا الذي سيرضى عنه الناس كلهم؟ ومن ذا الذي إذا رضي عنه كرام الناس لم يغضب عليه لئامهم؟!
والعجب كل العجب -عباد الله- أن بعض الناس يهون عليه التحفُّظ والاحتراز من أكل الحرام والزنا والظلم والسرقة وغير ذلكم، ويصعب عليه التحفظ من لسانه.
وكم نرى من مُترفِّع عن تلكم الفواحش والآثام ولسانه يفري في الأعراض ولا يبالي ما يقول؛ فيبغي على خصمه، والله -جل وعلا- يقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].
وكذلك تكون خاتمة الخصومات إذا كانت بين الزوجين غالبًا: الطلاق، وينشأ عنه تشتُّت أفراد البيت، وضياع الأبناء، وخراب الأُسَر، وفي الحديث: قال صلى الله عليه وسلم:" أيما امرأة سألت الطلاق من غير ما بأس لم ترح رائحة الجنة"، وغالب أسباب الطلاق هي الخصومة.
خاتمتها أيضًا: أشهر وسنوات خلف القضبان وما يصاحبها من فقد الحرية وضياع الأبناء والوظيفة وحزن الوالدين وإحراق قلوبهما على ذاك الابن، وإشغال الوالد بمراجعة الشُّرط والمحاكم وما يلاقيه من نَصَبٍ وتعبٍ وحزنٍ.
أيها الناس، إن الخصومة بين الناس أمرٌ واقعٌ لا محالة بينهم إلا من رحم ربي؛ لأن كثيرًا من الخُلَطاء لَيبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقليل ما هم.
ولأجل هذا -عباد الله- جاءت الشريعة الغَرَّاء ذامَّةً للخصومة، فاضَّةً للنزاع، محذرةً من التجاوز فيهما، قال صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَبغَضَ الرِّجَالِ إلى اللهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ"، وَالأَلَدُّ الخَصِمُ هو الشَّدِيدُ في مُجَادَلَتِهِ بِالبَاطِلِ، الكَذَّابُ في مَقَالَتِهِ، الفَاجِرُ في خُصُومَتِهِ، الظَّالِمُ في حُكْمِهِ، المُندَفِعُ مَعَ مَا يُملِيهِ عَلَيهِ الشَّيطَانُ مِن أَفكَارٍ وَاتِّهَامَاتٍ لِخَصمِهِ.
ومن أعظم الخصومة أن يفتري على الآخَرِينَ ويتهمهم بِما لَيسَ فِيهِم، فَعَن عَبدِاللهِ بنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "مَن خَاصَمَ في بَاطِلٍ وَهُوَ يَعلَمُهُ لم يَزَلْ في سَخَطِ اللهِ حَتَّى يَنزِعَ، وَمَن قَالَ في مُؤمِنٍ مَا لَيسَ فِيهِ أَسكَنَهُ اللهُ رَدغَةَ الخَبَالِ حَتَّى يَخرُجَ مِمَّا قَالَ"؛ رَوَاهُ أَحمَدُ، وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ، ولنحذر من تجاوز الحد في الخصومة لأجل الانتصار على الخصم أو احتقاره أو إهانته؛ لأن أذية الضعيف ولا سيَّما المؤمن والمؤمنة فيها إثم عظيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 57، 58].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسُّنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، وبعد:
أيها المسلمون، أصلحوا ذاتَ بينِكم؛ فالإصلاح عنوان الإيمان، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 10].
إصلاح ذات البين: هو إزالة أسباب الخصام والنزاع بالتسامح والعفو، أو بالتراضي، والمصلـح هو الذي يبذل جهده وماله ويبذل جاهه ليصلح بين المتخاصمين.. قلبه من أحسن الناس قلوبًا.. نفسه تُحِبُّ الخير وتشتاق إليه، ويبذل ماله ووقته، ويقع في حرج مع هـذا ومع الآخر، ويحمل هموم إخوانه ليصلح بينهم طمعًا في الأجر العظيم الذي سيناله من الله، قال الله تعالى: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114].
ويقول جل وعلا: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 1] ويقول: ﴿ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾ [النساء: 128]، وقال: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9].
فكم من بيت كاد أن يتهدَّم بسبب خلاف سهل بين الزوج وزوجه، وكاد الطلاق أن يُفرِّق بينهم، فإذا بهذا المصلح بكلمة طيبة، ونصيحة غالية، ومال مبذول، يعيد المياه إلى مجاريها ويصلح بينهما.
وكم من قطيعة كادت أن تكون بين أخوين أو صديقين أو قريبين بسبب زلة أو هفوة، وإذا بهذا المصلح يرقِّع خرق الفتنة ويصلح بينهما.
وكم عصم الله بالمصلحين من دماء وأموال وفتن شيطانية كادت أن تشتعل لولا فضل الله ثم جهد المصلحين.
فيا لسعادة مَـنْ وفَّقَـه الله للإصلاح بين متخاصمين! كانا زوجين أو جارين أو صديقين أو شريكين أو طائفتين، هنيئًا له هنيئًا له ثم هنيئًا له.
إن التنازع مفسد للبيوت والأُسَر، مهلك للشعوب والأمم، سافك للدماء، مُبدِّد للثروات، قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46].
بالخصومات والمشاحنات تُنْتهَك حرمات الدين، ويعمُّ الشر القريب والبعيد، ومن أجل ذلك سمَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فساد ذات البين بالحالقة، فهي لا تحلق الشعر ولكنها تحلق الدين.
إنَّ الأمة تحتاج إلى إصلاح يُدخِل الرِّضا على المتخاصمين، ويُعيد الوئام إلى المتنازعين، إصلاح تسكن به النفوس، وتأتلف به القلوب، إصلاح يقوم به عصبة خيِّرون شرفت أقدارهم، وكرمت أخلاقهم، وطابت منابتهم، وإنهم بمثل هذه المساعي الخيرة يبرهنون على نبل الطباع وكرم السجايا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولأن أمشي مع أخٍ في حاجة أحَبُّ إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد - يعني مسجد المدينة- شهرًا".
عباد الله، صلُّوا وسلِّموا على رسول الله فقد أمركم الله بذلك فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|