وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لزوجاته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسل والنبيِّين، لا سيَّما خاتمهم محمَّد، وعلى آله وصحبِه والتابعين.
وبعد:
كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم مَضرِب المثل في الوفاء، والآيات شاهدة على ذلك، والمواقف حافلةٌ بذلك، وما حديثنا نحن - ومَن نحن؟! - عن وفاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو هو؛ صاحبُ المقام الأعظم، والدرجةِ العليا - إلا تذكيرًا للمؤمنين؛ قال الله عز وجل: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55]، وتنبيهًا للغافلين؛ للرجوع إلى هديِ خير المرسلين، وإمام المتقين عليهم جميعًا أفضل صلاةٍ وأتمُّ تسليم.
يقول حسانُ بن ثابت رضي الله عنه مُرغمًا آنافَ المشركين بذِكر خصال رسول الله صلى الله عليه وسلم الكريمة، فمَن يباريه في تلك الخصال؟! ومنها الوفاء بالعهود، وإنجاز الوعود، وردُّ الجميل:
هجَوتَ محمدًا فأجبتُ عنهُ
وعندَ الله في ذاك الجَزاءُ
هجوتَ محمدًا بَرًّا حنيفًا
رسولَ الله شِيمتُه الوفاءُ
فإنَّ أبي ووالدتي وعِرضي
لعِرضِ محمدٍ منكم وِقاءُ
وفَّى النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته، مع صحابته، مع أمته، حتى المشركين وفَّى لهم - فيما سنذكره بمشيئة الله سبحانه - فاستحقَّ عن جدارةٍ أن يكون أوفى الأوفياء، وهذا طرَفٌ من سيرته العطرةِ في الوفاء مع زوجاته، نَقطف من تلك الحديقةِ الغنَّاء الوارفةِ الظلال أزهارًا نستمدُّ منها العِبرة، ونتلمسُ فيها النورَ والهدى؛ حتى نستبصر الصِّراط المستقيم، والهديَ القويم، قال الله جلَّ وعز في كتابه المحكَمِ المبين: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾[الأحزاب: 21].
"أيْ: هلاَّ اقتديتم به وتأسيتم بشمائله؟ ولهذا قال: ﴿ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]"[1].
فمِن وفائه لزوجاته: وفاؤه لخديجةَ رضي الله عنها[2]:
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: استأذنت هالةُ بنت خويلدٍ، أختُ خديجةَ، على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فعرَف استئذانَ خديجة، فارتاعَ لذلك، فقال: ((اللهمَّ هالة!))[3]، قالت: فغِرتُ، فقلتُ: ما تَذكرُ مِن عجوزٍ من عجائزِ قريش، حمراءِ الشِّدقين، هلكَت في الدهر، قد أبدلَك الله خيرًا منها؟![4].
وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: ما غِرتُ على أحدٍ من نساء النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما غرتُ على خديجةَ، وما رأيتُها، ولكن كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُكثِر ذِكرَها، وربما ذبَح الشاةَ ثم يقطعها أعضاءً، ثم يبعثها في صدائقِ خديجةَ، فربما قلتُ له: كأنه لم يكُن في الدنيا امرأةٌ إلا خديجة! فيقول: (إنَّها كانت، وكانت، وكان لي منها ولد))[5].
وعن عائشة، قالت: ما غرتُ على نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا على خديجة، وإني لم أُدرِكْها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبحَ الشاة، فيقول: ((أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة))، قالت: فأغضبتُه يومًا، فقلت: خديجة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني قد رُزقتُ حبَّها))[6].
وعن عائشة، قالت: "لم يتزوَّج النبي صلى الله عليه وسلم على خديجةَ حتى ماتَت[7]"[8].
وعن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكَر خديجة أثنى عليها، فأحسنَ الثناء، قالت: فغِرتُ يومًا، فقلتُ: ما أكثرَ ما تذكرُها، حمراءَ الشِّدق، قد أبدلَك الله عز وجلَّ بها خيرًا منها! قال: ((ما أبدلَني الله عز وجلَّ خيرًا منها؛ قد آمنَت بي إذْ كفَر بي الناس، وصدَّقتني إذ كذَّبني الناس، وواسَتني بمالها إذ حرَمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرَمني أولادَ النساء[9]"[10].
عن أبي زُرعة، قال: سمعتُ أبا هريرة، قال: أتى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذه خديجةُ قد أتَتك، معها إناءٌ فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك، فاقرأ عليها السَّلام من ربها عزَّ وجل، ومنِّي، وبَشِّرها ببيتٍ في الجنة من قصَب، لا صخَب فيه ولا نصَب[11].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|