حدث في السنة السابعة من الهجرة (4)
10- وفي هذه السنة: أهدت يهودية شاةً مصلية مسمومة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ لقمة فأخبرته الشاة بأنها مسمومة.
الشرح:
قامت زينب بنت الحارث زوج سلام بن مشكم اليهودية بإهداء شاة مصلية[1] مسمومة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد سألت: أي عضو أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها من السُّم، ثم سَّمت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، تناول الذراع، فلاك منها مُضغة، فلم يُسغْها، ومعه بشر بن البراء بن معرور، قد أخذ منها كما أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأما بشر فأساغها[2]، وأما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلفظها، ثم قال: «إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم»[3]، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ الْيَهُودِ»، فَجُمِعُوا لَهُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ؟»، فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَبُوكُمْ؟»، قَالُوا: أَبُونَا فُلَانٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ»، فَقَالُوا: صَدَقْتَ وَبَرِرْتَ، فَقَالَ: «هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟»، فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَاكَ عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا، قَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟»، فَقَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ثُمَّ تَخْلُفُونَنَا فِيهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «اخْسَئُوا فِيهَا وَاللَّهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا»، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟»، قَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: «هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سَمًّا؟»، فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟»، فَقَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَذَّابًا نَسْتَرِيحُ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ[4].
وعَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- سَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: أَرَدْتُ لِأَقْتُلَكَ، فَقَالَ: «مَا كَانَ الله لِيُسَلِّطَكِ عَلَيَّ»، قَالَ أنس: فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ[5] رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- [6].
وعَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَكَلَ مِنْهَا وَأَكَلَ الْقَوْمُ، فَقَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ فَإِنَّهَا أَخْبَرَتْنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ»[7].
فرفض النبي قتلها في أول الأمر – كما تقدم- ثم إن بِشْرَ بن الْبَرَاءِ بن مَعْرُورٍ مات عن جرَّاء ما أكل من السم، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فَقُتِلَتْ به[8].
وكان هذا السم من أسباب مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- مرض الوفاة.
عن عَائِشَة رضي الله عنها قالت: كَانَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: «يَا عَائِشَةُ، مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ»[9].
11- وفي هذه السنة: قدم حاطبُ بن أبي بلتعة من عند المقوقِس وقد أرسل معه للنبي -صلى الله عليه وسلم- مارية وأختها سيرين وبغلة وحمارًا وكُسوة، فأسلمت مارية وأختها قَبْل قدومهما على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخذ مارية لنفسه، فولدت له إبراهيم، وَوَهَبَ سيرين لحسَّان بن ثابت فهي أم ابنه عبدالرحمن، فهو وإبراهيم ابنا خالة.
الشرح:
قال ابن القيم - رحمه الله -:
وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس، واسمه جُريج بن ميناء ملك الإسكندرية عظيم القبط، فقال خيرًا، وقارب الأمر ولم يسلم، وأهدى للنبي -صلى الله عليه وسلم- مارية وأختها سيرين وقيسرى، فتسرَّى مارية، ووهب سيرين لحسان بن ثابت، وأهدى له جارية أخرى، وألف مثقال ذهبًا، وعشرين توبًا من قباطي مصر، وبغلة شهباء، وهي دُلْدُل، وحمارًا أشهب وهو عُفير، وغلامًا خصيًا يقال له: مابور، وقيل: هو ابن عم مارية، وفرسًا وهو اللزار، وقدحًا من زجاج، وعسلاً[10].
12- ولما انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خيبر بعث مُحيّصة بن مسعود إلى فدك يدعوهم إلى الإسلام، فصالحوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على نصف فدك خالصًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأنه لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكان يصرف ما يأتيه منه على أبناء السبيل.
الشرح:
لما فتح الله على المسلمين حصون خيبر، وسمع بهم أهل فدك، قد صنعوا ما صنعوا، بعثوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسألونه أن يسيرهم، وأن يحقن دماءهم، ويخلوا له الأموال، ففعل وكان فيمن مشى بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبينهم في ذلك مُحيصة بن مسعود، أخو بني حارثة فلما نزل أهل خيبر على ذلك، سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يعاملهم في الأموال على النصف، وقالوا: نحن أعلم بها منكم، وأَعْمر لها، فصالحهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على النصف، على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم، فصالحه أهل فدك على ذلك، فكانت خيبر فيئًا بين المسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهم لم يُجْلبوا عليها بخيل ولا ركاب[11].
وعن عُمَر بن الخطاب - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ لِرَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- ثَلَاثُ صَفَايَا: بنو النَّضِيرِ، وَخَيْبَرُ، وَفَدَكُ، فَأَمَّا بنو النَّضِيرِ: فَكَانَتْ حُبُسًا لِنَوَائِبِهِ، وَأَمَّا فَدَكُ: فَكَانَتْ حُبُسًا لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَأَمَّا خَيْبَرُ: فَجَزَّأَهَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ: جُزْأَيْنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَجُزْءًا نَفَقَةً لِأَهْلِهِ، فَمَا فَضُلَ عَنْ نَفَقَةِ أَهْلِهِ جَعَلَهُ بَيْنَ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ[12].
13- وفي مُنصرفه من خيبر أيضًا فتح وادي القرى، وغنم أموالها وترك أرضها مع اليهود على شَطر ما يخرج منها كأهل خيبر.
الشرح:
ثم انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متوجهًا إلى وادي القرى، التي لم يستسلم أهلها كأهل فدك إنما استقبلوا جيش المسلمين بالرمى، فقتلوا مِدْعَم عبد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحاصرهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى فتحها عنوة، وأقام بوادي القرى أربعة أيام، وقسم ما أصاب على أصحابه بوادي القرى، وترك الأرض والنخل بأيدي اليهود، وعاملهم عليها[13].
وعن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قال: افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً، إِنَّمَا غَنِمْنَا الْبَقَرَ وَالْإِبِلَ وَالْمَتَاعَ وَالْحَوَائِطَ[14]، ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- إِلَى وَادِي الْقُرَى، وَمَعَهُ عبد لَهُ يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ أَهْدَاهُ لَهُ أَحَدُ بني الضِّبَابِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ[15]، حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «بَلْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ[16] الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا»، فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ[17]، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ»[18].
(الأغصان الندية شرح الخلاصة البهية في ترتيب أحداث السيرة النبوية)
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|