الخلال النبوية (1)
الحمدلله؛ رحم هذه الأمة الخاتمة فأكرمها بأفضل خلقه، وبعث فيها خاتم رسله، نحمده على عظيم نعمه، ونشكره على تعدد مننه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ﴿ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيه ﴾ [الأنعام: 12]، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ كان أرحم نبي لأمته، وأشدهم شفقة ونصحا، وأكثرهم عفوا وصفحا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فلا منجاة للعباد يوم القيامة إلا بها ﴿ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الزمر: 61].
أيها الناس:
رحمة الله تعالى بعباده عظيمة، ومنته عليهم كبيرة، وهو عز وجل ذو الرحمة الكاملة التي لا يعتريها نقص بوجه من الوجوه، وليس العجز والضعف باعثا عليها بحال من الأحوال؛ وإنما هي رحمة الرحيم الرحمن، الذي وسع كل شيء رحمةً وعلمًا.
وأعظم رحمة حظيت بها هذه الأمة من الرب جل جلاله:
اختصاصها بنبي الرحمة، الذي ختم الله تعالى به النبوات، وأخرج العباد به من الظلمات، وأنزل ببركته أنواع الرحمات، فأهل الأرض يتراحمون بها إلى يوم القيامة، وصدق الله الكريم إذ يقول ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].
فرسالته عليه الصلاة والسلام التي بلغها عن ربه جل في علاه قد أفاضت على العباد بأنواع الرحمات، وشملت الرحمة به عليه الصلاة والسلام الإنس والجن، والطير والحيوان، والمؤمن والكافر، والبر والفاجر، وما من أحد على الأرض منذ بعثته عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة إلا أصابه شيء من تلك الرحمة التي جعلها الله تعالى واصلة للعالمين كلهم؛ ولذلك جاء في حديث مرسل أنه عليه الصلاة والسلام قال: (يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة)؛ رواه الدارمي وصححه الحاكم.
وأخص العالمين بتلك الرحمة، وأكثرهم حظا منها: من آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون، وفلاحهم يكون في الدنيا والآخرة، وكما جاء النص القرآني بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين جاء كذلك بالنص على أنه عليه الصلاة والسلام رحمة للمؤمنين في قوله تعالى: ﴿ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ﴾ [التوبة: 61].
ومن رحمته عليه الصلاة والسلام لمن آمن به، ودان بدينه: دعاؤه لهم؛ إذ كان يكثر من ذلك، ولا سيما إذا تذكر حال الأنبياء السابقين مع أممهم، فتغلبه رحمته لأمته فيدعو لهم؛ كما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: ﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾ [إبراهيم: 36]، وقال عيسى عليه السلام: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118]، فرفع عليه الصلاة والسلام يديه وقال: (اللهم أمتي أمتي)، وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فسله: ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال - وهو أعلم - فقال الله تعالى: (يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك)؛ رواه مسلم.
وخطب عليه الصلاة والسلام يومًا فقال: (أيما رجل من أمتي سببته سبة في غضبى، أو لعنته لعنة فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني رحمة للعالمين فاجعلها صلاةً عليه يوم القيامة)؛ رواه أحمد.
وبلغ من رحمته عليه الصلاة والسلام بأمته أنه قدمهم على نفسه في دعوة مجابة أعطاه الله تعالى إياها كما أعطى الأنبياء قبله، فلم يخصها لنفسه بل ادخرها لأمته؛ كما روى أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل نبي دعوة قد دعا بها فاستجيب فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)؛ رواه الشيخان، وفي رواية لهما - واللفظ لمسلم - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة - إن شاء الله - من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا).
صلوات ربي وسلامه عليه، ما أعظم رحمته بنا، وما أشد حرصه علينا!! أَيُلَامُ المؤمنون به أن أحبوه وعزروه ونصروه، وقد آثرهم على نفسه، وخصهم بدعوته، في موقف يا له من موقف؟! والله لا يلومهم على ذلك إلا كافر لم يؤمن به، أو منافق يخفي كفره، أو جاهل لم يعرف فضل الرسول صلى الله عليه وسلم.
وما أخبر الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين إلا وقد شملت رحمته الكفار والمنافقين، وبيان ذلك أن المشركين دعوا على أنفسهم بالعذاب فقالوا ﴿ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الأنفال: 32] فرفعه الله تعالى عنهم ببركة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾ [الأنفال: 33]، وأما بعد موته عليه الصلاة والسلام فبالاستغفار الذي شرعه لهم، ودلهم عليه ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الأنفال: 33].
ولما اشتد به أذى المشركين، وصدوا عن دعوته، وعذبوا أصحابه، ولحقه من الهم ما لحقه؛ استأذنه ملك الجبال أن يهلك المشركين، ويسحقهم بين جبلين عظيمين؛ فرحمهم عليه الصلاة والسلام رغم شدة أذاهم له، وأمهلهم مرة بعد مرة، ولم ينتصر لنفسه لما جاءه النصير، بل غلبت رحمته لقومه انتقامه لنفسه؛ فقال عليه الصلاة والسلام لملك الجبال عليه السلام: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا)؛ متفق عليه.
وسبب ذلك أنه ما أراد عذاب أمته، بل ابتغى أن يكون ذخرا لهم، وخيرا متقدما يجدونه أمامهم بعد وفاتهم؛ كما روى أبو موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطا وسلفا بين يديها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حي فأهلكها وهو ينظر فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره)؛ رواه مسلم.
ولما دعا على المشركين بالجوع فأصابهم شكوا إليه ما وجدوا فرحمهم عليه الصلاة والسلام فعاد يدعو لهم بالغيث فسقوا؛ كما روى ابن مسعود رضي الله عنه: أن قريشا أبطؤوا عن الإسلام فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم أعنِّي عليهم بسبع كسبع يوسف، فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام، ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان، فجاءه أبو سفيان فقال: يا محمد، جئت تأمرنا بصلة الرحم وإن قومك قد هلكوا فادع الله؛ رواه الشيخان، وفي رواية للبيهقي: فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكة فقالوا: يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث.
ولما قال له أحد أصحابه رضي الله عنهم: يا رسول، الله ادع على المشركين، قال: (إني لم أبعث لعانًا، وإنما بعثت رحمة)؛ رواه مسلم.
وكان عليه الصلاة والسلام شديد الأسى، كثير الحزن على من لم يؤمن من قومه، لا يهنأ بعيش وهو يراهم على الكفر؛ رحمة بهم، وشفقة عليهم، فعاتبه الله تعالى في ذلك ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ [الكهف: 6] أي: لعلك مهلك نفسك أو قاتلها أسفا عليهم إذ لم يؤمنوا، وفي الآية الأخرى ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ [الكهف: 6]، واشتدت به الحسرة عليهم حتى خاطبه الله تعالى بقوله: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [فاطر: 8]، وسلَّاه ربه عز وجل في حزنه هذا بقوله تعالى ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [الأنعام: 33].
إنها - والله - لرحمة عجيبة منه عليه الصلاة والسلام لقومٍ كذبوه واستهزءوا به وبدينه، وآذوا أتباعه، واضطروه إلى الهجرة عن بلده، وقتلوا أصحابه، وحاولوا قتله غير مرة، وجمعوا الجموع لحربه، وجرحوه في أحد، وكسروا رباعيته، وهشموا البيضة على رأسه، ومع ذلك كله يرحمهم ويأسى عليهم، ويحزن لأجلهم، ويستغفر لهم قبل أن ينهى عن ذلك فيقول (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) ولم يكن أشدَّ فرحا بشيء فرحه بواحد منهم يدخل في الإسلام.
روى أنس رضي الله عنه فقال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له: (أسلم)، فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (الحمد لله الذي أنقذه من النار)؛ رواه البخاري.
إن الله تعالى قد رحم بالنبي صلى الله عليه وسلم المشركين فرفع عنهم العذاب بحلمه عليهم، وعفوه عنهم، وطلبه إمهالهم، واستسقائه لهم، ورحم به المنافقين بقبول معاذيرهم إذا اعتذروا، وتصديقهم إذا حلفوا، وحقن دمائهم، ومعاملتهم بظاهر حالهم، ورد سرائرهم إلى الله تعالى، واشتهر ذلك عنه عليه الصلاة والسلام حتى لمزه به المنافقون ﴿ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ﴾ [التوبة: 61] أي: يستمع لنا، ويقبل أعذارنا، وسنقول ما شئنا ثم نحلف له فيصدقنا، فكان رد الله تعالى عليهم ﴿ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ﴾ [التوبة: 61] يعني: أن يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم ولا يقبل قولكم.
وفي قول الله عز وجل ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107] قال ابن عباس رضي الله عنهما: من آمن بالله واليوم الآخر كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف.
ومظاهر رحمته عليه الصلاة والسلام للناس أجمعين، بل حتى للحيوان لا يتسع هذا المقام لعدِّها كلها، فضلا عن عرضها بحوادثها وتفصيلاتها... ومن المعجزات النبوية أن بعض الحيوان كان يحس برحمة النبي صلى الله عليه وسلم فيلجأ إليه يشتكي رهق مالكه، ومن ذلك ما رواه عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه فسكت، فقال: (من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟) فجاء فتى من الأنصار، فقال: لي يا رسول الله، فقال: (أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكى إليَّ أنك تجيعه وتدئبه) أي: ترهقه في العمل. رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه.
أيها الناس:
كما حفظت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مواقف كثيرة أظهرت رحمته بالعالمين؛ فإنها حفظت كذلك مواقف أخرى أوقع فيها العقوبة الشديدة على من يستحقها، وليس ذلك مما يتعارض مع صفة الرحمة التي امتلأ قلبه بها، بل إن وضع الرحمة في غير موضعها مما يذم ولا يحمد؛ وذلك كتعطيل الحدود والتعزيرات رحمة بالمجرمين، ولازم ذلك سلب الرحمة عن عموم الناس لحساب أهل الفساد والإجرام.
وكما دعا النبي عليه الصلاة والسلام لبعض المشركين بالهداية، واستسقى لهم؛ دعا كذلك على آخرين بالعذاب والزلزلة والنار، فعلم أن الدعاء للمشركين بالهداية جائز كما أن الدعاء عليهم بالعذاب جائز كذلك.
ولما عدا يهودي على جارية فأخذ ذهبها، ورضخ رأسها بالحجارة؛ رضخ النبي صلى الله عليه وسلم رأس اليهودي بين حجرين.
وأسلم ناس من العرنيين فألحقهم عليه الصلاة والسلام بإبل الصدقة ليشربوا من ألبانها، ويتداووا بأبوالها، فلما صحوا وتعافوا؛ ارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، ثم لم يحسمهم حتى ماتوا. وفي رواية: فأمر عليه الصلاة والسلام بمسامير فأحميت فكحلهم، وقطع أيديهم وأرجلهم، وما حسمهم، ثم ألقوا في الحرة يستسقون فما سقوا حتى ماتوا. قال أنس رضي الله عنه: فرأيت الرجل منهم يكدم الأرض بلسانه حتى يموت، وفي رواية قال أنس رضي الله عنه: فلقد رأيت أحدهم فاغرًا فاه يعضُّ الأرض ليجد من بردها مما يجد من الحر والشدة. وقصتهم مخرجة في الصحيحين.
ونقض يهود قريظة العهد، وحكّم فيهم النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ رضي الله عنه فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قضيت بحكم الله)، فخدت لهم خنادق في الأرض، وضربت أعناق رجالهم فيها، وكانوا يقاربون ست مئة رجل، وسبيت نساؤهم وذراريهم، وغنمت أموالهم. وكان هذا الجزاء العادل حكم الله تعالى فيمن نقضوا العهد، وأرادوا السوء بالمسلمين وقصتهم أيضا في الصحيحين.
كل هذه الحوادث ومثيلاتها تشريع من رب العالمين، أوحى به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أو حكم النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء المجرمين بما سمعتم، وأقرَّ الله تعالى حكمه، فكان ذلك تشريعا، ورسولنا صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فعلم أن هذه الأحكام منه صلى الله عليه وسلم - وإن بدت للبعض قاسية - حق لا باطل فيه أبدا.
وإزاء هذه الحوادث ومثيلاتها في السيرة النبوية اختلفت مواقف الناس في هذا العصر.
وضلَّ فيها طائفتان من الناس:
فالكفار والمنافقون، ومن في قلوبهم حقد على الإسلام والمسلمين: أبرزوها كدليل على دموية المسلمين، والقدح بها في النبي صلى الله عليه وسلم، واختزلوا السيرة النبوية في ذلك، مع تعاميهم عن الجرم الذي ارتكبه من استحقوا تلك العقوبات، وإخفائهم للحوادث الكثيرة التي تدل على العفو والصفح والرحمة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
والطائفة الأخرى: قوم قابلوا هؤلاء، فجدَّوا واجتهدوا في الذب عن الإسلام، لكنهم أخطئوا الطريق، ولم يوفقوا في المعالجة؛ إذ حَرِجُوا من مثل تلك المواقف، فراح بعضهم ينكرها ولو كانت ثابتة، أو يتكلف في تأويلها بما يضعف حجته، وينقص عقله، وكثير ممن سلكوا تلك الطريق الوعرة هم ممن سلَّموا ببعض المبادئ الغربية الإلحادية، ويدعون إلى حرية الرأي وحرية التدين التي منها جواز تغيير الدين حسب المنهج الغربي، فيضطرون لأجل ذلك إلى إلغاء حدِّ الردة... وإذا تحدثوا عن الإسلام اختزلوه في صور السماحة والعفو، ولا يعرضون العقوبات في الإسلام إلا على استحياء وبخفض صوت، ويعللونها بتعليلات سامجة باردة.
وسبب ذلك: أن هؤلاء - هدانا الله وإياهم - قد بُهروا بما في القوانين الدولية من مواد حفظ حقوق الإنسان، وجعلوها حقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثم حاكموا شريعة الإسلام إليها، فما وافقها رفعوا عقيرتهم مثبتين أن الإسلام سبق إليها، وما خالفها أخفوه أو سكتوا عنه، فإن جوبهوا به من قبل الأعداء أنكروه، أو تأولوه، أو استخرجوا له مذهبا شاذا، أو قولا مهجورا ليس له من الدليل إلا أنه موافق للقانون الطاغوتي الوضعي، فهم قاسوا شريعة الله تعالى المحكمة بشرائع البشر الفاسدة، وحاكموها إلى ما يعارضها ويناقضها وهي الحاكمة، وهذا أُسُّ الخطأ، وسبب الضلال والانحراف.
وما علم هؤلاء المفتونون أننا لسنا ملزمين بإقناع أعدائنا بأحكام ديننا، فإن آمنوا فلهم، وإن كفروا فعليهم. لكننا ملزمون بتعظيم شريعة ربنا، والأخذ بجميع أحكامها، وعدم الحرج من شيء منها، ولو كان يزعج الأعداء، ويخالف قوانينهم الوضعية.
وليعلم كل من يزور شريعة الله تعالى لأجلهم أنهم لن يرضوا عنه حتى يخرج من دينه، ويتبعهم في إلحادهم؛ فأولى له سلامة دينه من مراعاة أعدائه، وشريعة الله تعالى فوق نقد الناقدين، ويجب ألا تُضاهى بتخبطات القانونيين، وهي شريعة خالدة باقية على رغم أنوف الحاقدين والكارهين من الكفار والمنافقين؛ فمن رضيها وسلَّم بها فهو ينفع نفسه، ومن ردها أو عارضها فهو يضر نفسه، ولن يضر الله تعالى شيئا ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [يونس: 99، 100].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|