صحيح وصايا النبي لأبي ذر الغفاري
أبو ذر الغِفَارِي صحابي مشهور، اسمه: جُنْدُب بن جُنَادَة، أسلم قديمًا، لازم النبي صلى الله عليه وسلم وجاهد معه، مات سنة 32هـ في خلافة عثمان، رضي الله عنهم أجمعين.
وقد أوصاه النبي صلى الله عليه وسلم بجملة من الوصايا، رأيت أن أذكر ما صح منها -مع بعض الفوائد- في النقاط التالية:
الوصية الأولى:
روى البخاري ومسلم عن أبي ذر، قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا أبا ذر، ما أُحِبُّ أن أُحُدًا (الجبل المعروف) تحوَّل لي ذهبًا، يمكث عندي منه دينار فوق ثلاث، إلا دينارًا أرصده لدين))، ثم قال: ((يا أبا ذر، إن الأكثرين هم الأقلون، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، وقليل ما هم)).
ومعنى ((إلا شيئًا أرصده لدين))؛ أي: أُعِدُّهُ أو أحفظه لوفاء دين عليَّ.
وقوله: ((الأكثرون هم الأقلون))؛ المراد: الأكثرون مالًا في الدنيا، الأقلون ثوابًا في الآخرة إذا لم يؤدوا حقوق المال الذي في أيديهم.
((إلا مَن قال هكذا وهكذا))؛ أي: فرَّق المال بيديه يمينًا وشمالًا؛ والمراد: أنفقه في كل جهة من جهات الخير.
((قليل ما هم)): قليلون من الناس هم الذين يفعلون.
الوصية الثانية:
روى البخاري ومسلم عن المعرور بن سُوَيْدٍ قال: لقيت أبا ذر بالرَّبَذَةِ (موضع قريب من المدينة)، وعليه حُلَّةٌ (ثوبان: إزار ورداء)، وعلى غلامه حُلَّةٌ، فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببت (شاتمت) رجلا فَعَيَّرْتُهُ بأُمِّهِ، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خَوَلُكُمْ، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فلْيُطْعِمْهُ مما يأكل، وليُلْبِسْهُ مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم)).
كان على أبي ذر بُرْد جيد، وعلى غلامه كذلك، فسأله المعرور بن سويد عن السبب في إلباسه غلامه نظير لبسه؛ لأنه على خلاف المألوف، فأجابه بحكاية القصة التي كانت سببًا لذلك.
ومعنى ((إخوانكم خَوَلُكُمْ))؛ أي: الذين يخولون أموركم ويصلحونها من العبيد والخدم، ومنه الخولي لمن يقوم بإصلاح البستان، هم إخوانكم في الدين أو الآدمية.
ومعنى ((إنك امرؤ فيك جاهلية))؛ أي: خصلة من خصال الجاهلية؛ وهي التفاخر بالآباء، ويظهر أن ذلك كان من أبي ذر قبل أن يعرف تحريمه، فكانت تلك الخصلة من خصال الجاهلية باقية عنده ... وكان بعد ذلك يساوي بينه وبين غلامه في الملبوس وغيره أخًذا بالأفضل، وإن كان لفظ الحديث يقتضي اشتراط المواساة لا المساواة؛ باختصار من: فتح الباري لابن حجر.
الوصية الثالثة:
روى مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر، إِذا طَبَخْتَ مَرَقَة فَأَكثِرْ مَاءَها، وتعاهد جيرانك منها)).
وفي رواية أخرى لمسلم: ((إِن خليلي أوصاني: إِذا طَبَخْتَ مَرَقًا فأكثر ماءه، ثم انظر أقربَ أهل بيت من جيرانك، فأصِبْهُمْ منها بمعروف)).
وفي الحديث حضٌّ على مكارم الأخلاق؛ لما يترتب عليها من المحبة، وحسن العشرة، ودفع الحاجة والمفسدة.
الوصية الرابعة:
روى مسلم عن أبي ذر، قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على مَنْكِبِي، ثم قال: ((يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأَدَّى الذي عليه فيها)).
وفي رواية: ((يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، وإني أُحِبَّ لك ما أحبُّ لنفسي، فلا تَأَمرَنَّ على اثنين، ولا تَولَّيَنَّ مال يتيم)).
قال الإمام النووي: هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات، لا سيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائف تلك الولاية، وأما الخزي والندامة فهو في حق من لم يكن أهلًا لها، أو كان أهلًا ولم يعدل فيها، فيخزيه الله تعالى يوم القيامة، ويفضحه، ويندم على ما فرط.
وأما من كان أهلًا للولاية وعدل فيها فله فضل عظيم، ومع هذا، فلكثرة الخطر فيها حذره صلى الله عليه وسلم منها، وكذا حذر العلماء، وامتنع منها خلائق من السلف، وصبروا على الأذى حين امتنعوا؛ شرح النووي على مسلم.
الوصية الخامسة:
روى مسلم والترمذي عن عبدالله بن الصامت، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله؟)) قلت: يا رسول الله، أخبرني بأحب الكلام إلى الله، فقال: ((إن أحب الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده)).
الوصية السادسة:
روى مسلم عن أبي ذر، قال: قال لي رسول الله: ((يا أبا ذَر، كيف أنت إذا كانت عليك أُمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ -أو- يميتون الصلاة عن وقتها؟)) قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: ((صلِّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم، فصلِّ، فإنها لك نافلة)).
قال الإمام النووي: معنى ((يميتون الصلاة)): يؤخرونها، فيجعلونها كالميت الذي خرجت روحه ... وفي هذا الحديث: الحث على الصلاة أول الوقت، وفيه أن الإمام إذا أخَّرها عن أول وقتها يستحب للمأموم أن يصليها في أول الوقت منفردًا، ثم يصليها مع الإمام ... وفيه الحث على موافقة الأمراء في غير معصية؛ لئلا تتفرق الكلمة، وتقع الفتنة؛ شرح النووي على مسلم.
الوصية السابعة:
روى أحمد والترمذي وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا أبا ذر، إذا صُمت من الشهر ثلاثة أيام؛ فصم ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة».
وتسمى هذه الثلاثة الأيام البيض؛ أي: أيام الليالي البيض؛ لإضاءتها بالقمر، وصيامها من كل شهر مندوب.
الوصية الثامنة:
روى أبو داود والترمذي عن أبي ذر أنه قال: كنت أَعْزُبُ (أغرب وأبعد) عن الماء ومعي أهلي، فتصيبني الجنابة، فأصلي بغير طهور، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصف النهار، وهو في رهط من أصحابه، وهو في ظل المسجد، فقال أبو ذر: فقلت: نعم، هلكت يا رسول الله، قال: ((وما أهلكك؟)) قلت: إني كنت أَعْزُبُ (أغرب وأبعد) عن الماء، ومعي أهلي، فتصيبني الجنابة، فأصلي بغير طهور، فأمر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء، فتسترت إلى بعير فاغتسلت، ثم جئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر، إن الصعيد الطيب طهور، وإن لم تجد الماء إلى عشر سنين، فإذا وجدتَ الماءَ فأمِسَّه جلدَك)).
وقوله: ((عشر سنين)) ليس للتحديد؛ بل لمطلق التكثير؛ أي: عشر سنين أو أكثر، وكذا إن وجد الماء، وله مانع من استعماله، وفي الحديث إشارة إلى أن التيمم يقوم مقام الوضوء، ولو كانت الطهارة به ضعيفة؛ لكونها طهارة ضرورية لآداء الصلاة.
الوصية التاسعة:
روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي ذر، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا ذر، انظر أَرْفَعَ رَجُلٍ؟ (أي: الرفعة من حيث الدنيا) في المسجد))، قال: فنظرت، فإذا رجل عليه حُلَّةٌ، قال: قلت: هذا، قال: قال لي: ((انظر أَوْضَعَ رجل في المسجد؟))، قال: فنظرت، فإذا رجل عليه أخلاق (جمع خَلَقٍ، وهو الثوب القديم)، قال: قلت: هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لهذا عند الله أخير يوم القيامة من ملء الأرض من مثل هذا)).
الوصية العاشرة:
روى الإمام أحمد في مسنده عن عبدالله بن الصامت: أنه كان مع أبي ذر، فخرج عطاؤه، ومعه جارية له، فجعلت تقضي حوائجه، قال: ففضل معها سَبْعٌ، قال: فأمرها أن تتصدق به، قال: قلت له: لو ادخرته للحاجة تنوبك (أي: تنزل بك)، أو للضيف ينزل بك، قال: إن خليلي عَهِدَ إِليَّ أَنْ أَيُّمَا ذَهَبٍ أَو فِضَّةٍ أُوكِيَ عليه (أي: رُبِط عليه)، فهو جَمْرٌ على صاحبه حتى يُفْرِغَهُ في سبيل الله عز وجل إفراغًا.
الوصية الحادية عشرة:
روى الإمام أحمد في مسنده عن عبدالله بن الصامت، عن أبي ذر، قال: أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع: أمرني بحب المساكين، والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإِنْ أَدْبَرَتْ، وأمرني ألَّا أسأل أحدًا شيئًا، وأمرني أن أقول بالحق وإن كان مُرًّا، وأمرني ألَّا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أَنْ أُكْثِرَ من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهن من كنز تحت العرش.
هذا ما تيسَّر لي جمعه، أسأل الله أن ينفع به كاتبه وقارئه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|