مكة تتلقى نبأ الهزيمة في غزوة بدر
أما قريش فإنها عندما تهيأت للحرب كانت تظن أن هذه نهاية محمد، وأصحابه، وأرادت أن تفخر بذلك أمام العرب قال تعالى: ﴿ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [الأنفال: 47]، وإذا بها تتلقى الهزيمة والخزي على أيدي المسلمين، تلقت مكة النبأ وهي لا تكاد تصدق لأنه فوق ما كانت تتصور، وتعتقد، فقد قتل الأشياخ والقادة، وأسر الرجال، وأخذت الأموال، وكما استبعد أهل مكة الهزيمة على أنفسهم حتى جوبهوا بعارها، استبعد مشركو المدينة، ويهودها ما قرع آذانهم من بشريات الفوز، وذهب بعضهم إلى حد اتهام المسلمين بأن ما يذاع عن نصرهم محض اختلاق، وظلوا يكابرون حتى رأوا الأسرى مقرنين في الأصفاد فسُقط في أيديهم.
وقد اختلفت مسالك الأحزاب الكافرة بإزاء المسلمين بعد هذا الغلب الذي مكن للإسلام وأهله، وجعل سلطانهم مهيباً في المدينة وما حولها، ومد نفوذهم على طريق القوافل في شمال الجزيرة، فأصبح لا يمر بها أحد إلا بإذنهم، فأما أهل مكة فقد انطووا على أنفسهم يداوون جراحهم، ويستعيدون قواهم، ويستعدون لنيل ثأرهم، ويعلنون أن يوم الانتقام قريب، ولم تزدهم الهزيمة إلا كرها للإسلام، ونقمة على محمد وصحبه، واضطهادا لمن يدخل في دينه، فكان من ينشرح صدره للإسلام يختفي به، أو يعيش ذليلاً مستضعفاً، ذلك في مكة، حيث كانت الدولة للكفر، أما في المدينة حيث المسلمين كثرة مكينة ظاهرة، فقد اتخذت العداوة للإسلام طريقة الدس والنفاق والمخاتلة، فأسلم فريق من المشركين واليهود ظاهراً، وقلوبهم تغلي حقداً وكفراً، وعلى رأس هؤلاء عبد الله بن أُبي.
روى ابن أبي حاتم في تفسيره من حديث أسامة بن زيد قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب - كما أمرهم الله تعالى - ويصبرون على الأذى، قال تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 109]، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتأول من العفو ما أمره الله به حتى أذن فيهم بالقتل[1].
فلما غزا بدراً، وقتل الله من قتل من صناديد قريش، وقفل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه منصورين غانمين، معهم أساراهم. قال عبد الله بن أبي ومن معه كما سبق: "هذا أمر قد توجه"، على أن هذا الخداع لاذ به فريق من الكفار في الوقت الذي عالن فيه فريق آخر من اليهود بسخطهم على محمد، وألمهم للهزيمة التي أصابت قريشاً في "بدر". بل إن كعب بن الأشرف - من رجالات اليهود - أرسل القصائد في رثاء قتلاهم، والمطالبة بثأرهم، ولقد اتسعت شقة العداوة بين المسلمين واليهود إثر هذا الموقف النابي، ثم حاول اليهود أن يحقروا من شأن النصر الذي حظي به الإسلام، مما مهد للأحداث العنيفة التي وقعت بعد، ودفع اليهود من أجلها دمهم أفراداً وجماعات[2].
قال ابن إسحاق: "وكان أول من قدم بمكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله الخزاعي، فقالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وزمعة ابن الأسود، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام.. فلما جعل يعدد أشراف قريش قال صفوان بن أمية: والله إن يعقل هذا، فسلوه عني. فقالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال: هو ذاك جالس في الحجر، قد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
قال موسى بن عقبة: ولما وصل الخبر إلى أهل مكة، وتحققوه قطعت النساء شعورهن، وعقرت خيول كثيرة ورواحل[3].
وساق ابن إسحاق بسنده إلى أبي رافع مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل، وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، فبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة، وكذلك كانوا صنعوا، لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلاً، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش، كبته الله[4] وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزاً.
قال: وكنت رجلاً ضعيفاً، وكنت أعمل الأقداح[5] أنحتها[6] في حجرة زمزم، فوالله إني لجالس فيها أنحت أقداحي، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس على طنب الحجرة[7]، فكان ظهره إلى ظهري، فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب - قال ابن هشام: واسم أبي سفيان المغيرة - قد قدم، قال: فقال له أبو لهب: هلم إليّ، فعندك لعمري الخبر، قال: فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاؤوا، وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقيناً رجالاً بيضا على خيل بلق ما بين السماء والأرض، والله ما تليق شيئاً[8]، ولا يقوم لها شيء. قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك والله الملائكة. قال: فرفع أبو لهب يده فضرب بها وجهي ضربة شديدة، قال وثاورته[9] فاحتملني فضرب بي الأرض ثم برك علي يضربني، وكنت رجلاً ضعيفاً، فقامت أم الفضل إلى عمود[10] من عمد الحجرة، فأخذته فضربته به ضربة فلعت[11] في رأسه شجة منكرة، وقالت: استضعفته إن غاب عنه سيده، فقام مولياً ذليلاً، فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة[12] فقتله[13].
وساق ابن إسحاق بسنده إلى عباد بن عبد الله بن الزبير قال: ناحت قريش على قتلاهم، ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ محمداً وأصحابه فيشمتوا بكم، ولا تبعثوا في أسراكم حتى تستأنوا[14] بهم، لا يأرب[15] عليكم محمد وأصحابه في الفداء.
قال: وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة بن الأسود، وعقيل بن الأسود، والحارث بن زمعة، وكان يحب أن يبكي على بنيه، قال: فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل، فقال لغلام له وقد ذهب بصره: انظر هل أُحل النَّحب[16]؟ هل بكت قريش على قتلاها؟ لعلي أبكي على أبي حكيمة، يعني: زمعة، فإن جوفي قد احترق، قال: فلما رجع إليه الغلام قال: إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته، قال: فذاك حين يقول الأسود:
أتبكي أن يضلَّ لها بعير
ويمنعها من النّوم السّهود[17]
فلا تبكي على بكر ولكن
على بدر تقاصرت الجدود[18]
على بدر سَراة بني هُصيص
ومخزوم ورهط أبي الوليد[19]
وبكّي إن بكيتِ على عقيل
وبكّي حارثاً أسد الأسود
وبكّيهم ولا تسمي جميعاً
وما لأبي حكيمة من نديد[20][21]
قال ابن كثير - رحمه الله -: وكان هذا من تمام ما عذب الله به أحياءهم في ذلك الوقت، وهو تركهم النوح على قتلاهم، فإن البكاء على الميت مما يبل فؤاد الحزين[22]. اهـ.
ولكن قريشاً قررت الأخذ بالثأر، وأرادت أن تبل حزنها بضرب المسلمين ضربة قوية موجهة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكانت محاولتها لقتله.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|