التوكل والاعتماد على الله من أخلاق غزوة بدر
التوكل قاعدة أخلاقيَّة يَنبثِق عنها ويرتبط بها جملةٌ من الأخلاق؛ كالشجاعة، والفِداء والتضحية، والطاعة، والصبر، والتوكلُ يُهذِّب سلوكَ المسلم في تَعامُله مع الأسباب المادية، والأساليب التي يَنتهِجها لتحقيق الانتصار.
فإن من المُسلَّمات في عقيدة المؤمن أن النصرَ من عند الله يؤتيه من يشاء؛ لذلك فإن اعتماده لا يكون في الحقيقة على العدد والعُدَّة والعتاد؛ وإنما يكون على الله عز وجل، لقد كان عدد جند المسلمين ثلاثمائة وسبعة عشر رجلاً ليس معهم إلا فرس واحد أو فرسان، وسبعون بعيرًا يَعتقِب الرجلان والثلاثة على بعير واحد.
أما جيش الكفار، فكان عدده ألفًا وثلاثمائة في بداية سَيره، ثم صار ألف رجل بعد رجوع بني زهرة، وكان معه مائة فرس، وستمائة درع، وعدد كبير من البُعْران لا يعرف حجمه بالضبط؛ حتى إنهم كانوا يَنحَرون يومًا تسعًا، ويومًا عشرًا من الإبل.
فالأسباب المادية كلها في صالح معسكر الكُفر، ولكن هذا التفوق العسكري لم يَفُتَّ في عضد المؤمنين؛ لأنهم لا يستعينون إلا بالله عز وجل.
يتجلَّى ذلك في موقف رسول الله من المُشرِك الذي عُرِف بالجرأة والشجاعة والنجدة، وجاء طالبًا الالتحاق بجيش المسلمين، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت لأتَّبِعك وأصيب معك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تؤمن بالله ورسوله؟))، قال: لا، قال: ((فارجع؛ فلن أستعين بمشرك))، ولم يقبل أن يَضُمه إلى الجيش، وردَّه في غير مرة، حتى أعلن إيمانه، فقَبِل ضمَّه[2].
فرغم ضَعْف المسلمين وقلة عددهم إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفَض الاستعانةَ بالمشرِك؛ حِفاظًا على الصِّبغة العقائدية في أُوْلى الملاحم الإسلامية، فلن يكون النصر بهذه الأسباب؛ وإنما بحُسْن اللجوء إلى الله، والتوكل والاعتماد عليه.
وكان تأييد الله - عز وجل - للمؤمنين بالملائكة منصوبًا على جُمْلة من الحكم التي تَدعَم جانبَ التوكل عند المؤمن، حيث أراد الله أن يُباشِر المؤمنون القتالَ بأنفسهم - وهو قادر على نَصْرهم بغير قتال - لدعم مبدأ الأخذ بالأسباب، ولتشريف المؤمنين بأداء هذه الوظيفة الجليلة، ثم جاء تأييدهم بالملائكة؛ لتثبيت عقيدة التوكل والاعتماد على الله، والتيقُّن بأن النصر لا يكون إلا من عنده، مع المحافظة على صورة الأسباب وسُنَّتها.
قال تقي الدين السبكي: "سئلت عن الحكمة في قتال الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه، فقلتُ: وقع ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتكون الملائكة مددًا على عادة مددِ الجيوش؛ رعاية لصورة الأسباب وسُنَّتها التي أجراها الله في عباده، والله تعالى هو فاعل الجميع"[3].
قال الله - عز وجل -: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [آل عمران: 123 - 126].
قال القرطبي: "نزول الملائكة سبب من أسباب النصر لا يحتاج إليه الرب تعالى؛ وإنما يحتاج إليه المخلوق، فليُعلِّق القلب بالله وليَثِق به، فهو الناصر بسب وبغير سبب: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، لكن أخبر بذلك ليَمتثِل الخَلْقُ ما أمرهم به من الأسباب التي خلتْ من قبل ﴿ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 62]، ولا يقدح ذلك في التوكل"[4].
إن نزولَ الملائكة للقتال مع المسلمين إنما هو مجرَّد تطمين لقلوبهم، واستجابة حسيَّة لشدة استغاثتهم، اقتضاها أنهم يقفون مع أول تَجرِبة قتال في سبيل الله لأناس يَبلُغون ثلاثة أضعافهم في العُدَّة والعدد، وإلا فالنصر من عند الله وحده، وليس للملائكة أي تأثير ذاتي في ذلك، من أجل بيان هذه الحقيقة؛ قال الله تعالى مُعلِّلاً نزول الملائكة: ﴿ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [آل عمران: 126][5].
ومن مشاهد التوكل في هذه الغزوة ما حكاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه من إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء والضراعة حيث قال: ((اللهم أَنجِز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تَهلِك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبَد في الأرض))، فما زال يَهتِف بربه، مادًّا يديه، مستقبلَ القبلة؛ حتى سقط رداؤه من منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه فقال: "يا نبي الله، كفاك مناشدتُك ربَّك، إنه سيُنجِز لك ما وعدك"[6].
فقد "ألحَّ على ربه في الدعاء، وقد غمرتْه في موقفه المتضرِّع مشاهدُ العبودية المُطلَقة، محفوفة بأنوار العظمة الربانية، ومجالي الكبرياء والجلال الإلهي، الذي ذابت تحت قَهْر عظمته قوى البشرية ومعالمها وآثارها، وقد تَسامتْ فيه رُوحانيته صلى الله عليه وسلم من القُرْب الأعز مقام قاب قوسين أو أدنى"[7].
إن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قد أخذ بكلِّ ما في وُسْعه من أسباب؛ كترتيب للجيش، وتعبئة للجند، واستكشاف للعدو، واتخاذ المواقع الإستراتيجية، لكنه من قبل ذلك ومن بعد يُحسِن اللجوءَ إلى ربه، والتوكل عليه، مُقِرًّا بأن النصر لا يكون إلا من عند الله، وأن كل هذه الأسباب المادية مهما بلغت وارتقت، تتصاغر وتتضاءل أمام إرادة الله وقضائه النافذ، وهذه العقيدة أساس خُلُقي تَنبثِق عنه جملة من الأخلاق، ولعلها من أهم ما تتميَّز به الجيوش الإسلامية عن غيرها من جيوش الجاهلية الطاعنة في استعظام الأسباب المادية، فإن حصَّلت منها قدرًا تتفوَّق به، أصيبت بجنون العظمة، وترنَّحت في سكرة الغطرسة والتجبر، ونشوة الكِبْر والعُجْب، وظنَّت في نفسها ربًّا يسوم الناسَ سوءَ العذاب، ويُذيقهم ويلاتِ القهر والعبودية وَفْق قانون الغاب الذي انتُزِع منه كلُّ خُلُق كريم أو قيمة إنسانية، وإن ذاكم لفُرْقان، بين جند الرحمن وجند الشيطان، وإنه لَبُون شاسع بين من انطلق من مقام العبودية مُنصهِرًا تحت إرادة الرب الحق سبحانه متوكلاً عليه، وبين مَن نصَّب من نفسه صنمًا يريد إخضاع خصومه له ساجدين.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|