أم المؤمنين (2)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
وبعد:
فالمقصود أن أم المؤمنين قالت: دَعْني من ابن عباس، فقال لها: يا أماه، إن ابن عباس من صالحي بَنِيك، يُسلِّم عليك ويُودِّعك، فقالت: ائذنْ له إن شئت، فأدخلته، فلما جلس قال: أبشري أبشري! فما بينك وبين أن تلقي محمدًا - صلى الله عليه وسلم - والأحبَّةَ إلا أن تخرج الروح من الجسد - لأنه كان يؤمن أنها زوجته في الجنة رضي الله عنها - فقد كنتِ أحبَّ نساء رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إليه، ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ إلا طيِّبًا، وسقطَتْ قلادتُك ليلة الأبواء، فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلبُها في المنزل، (وهذه القصة هي أنه حينما سقطت قلادتُها أوقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - جميع الجيش الذين معه ليبحثوا عن قلادة عائشة - رضي الله عنها - ليلةً كاملة، فغضِب منها أبو بكر - رضي الله عنه - لَمَّا علِم أنهم أنما حُبِسوا بسببها، فأتاها ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - نائمٌ على فخذِها، فجعل أبو بكر - رضي الله عنه - يطعن في خاصرتها، ويقول: حبستِنا, فكانت تتألَّم جدًّا من هذا الضرب، ولكنها لم تتحرَّك حتى لا يستيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكانت تثبت في مكانها رغم شدة هذا الطعن الذي كان يطعنها به أبو بكر - رضي الله عنه - في خاصرتها، ويُوبِّخُها بأنها تسبَّبت في حبس المسلمين، فأصبح الناس وليس معهم ماء يتوضؤون به، فأنزل الله - عز وجل -: ﴿ فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴾ [النساء: 43]، فحينئذٍ تيمَّموا، وأرادوا أن يرحلوا، فإذا بالقلادة تحت جَمَلِها الذي كان باركًا.
فالشاهد أن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال لها في ضمن مناقبها - رضي الله عنها -: وسقطَتْ قلادتُك ليلة الأبواء، فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلبها في المنزل، فأصبح الناس وليس معهم ماء، فأنزل الله - عز وجل -: ﴿ فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴾ [النساء: 43]، وكان ذلك بسببك.
ولذلك قال أُسَيد بن حُضَير - رضي الله عنه - لها: ما هي بأوَّلِ بركتِكم يا آل أبي بكر؛ أي: ليست هي أوَّلَ بركتِكم على الأمة؛ فإنَّ لكم بركات كثيرة.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: وأنزل الله براءتك من فوق سبع سموات، جاء بها الروح الأمين، فأصبح وليس مسجدٌ من مساجد الله يُذكَر اللهُ فيه إلا تُتلى فيه آناء الليل وأطراف النهار، فردَّت أم المؤمنين - رضي الله عنها -: يا ابن عباس، دَعْني منك ومن تزكيتِك، فواللهِ لوددتُ أني كنت نسيًا منسيًّا.
لقد تواضع القلم، بل عجز أن يأتي بجديد عن أم المؤمنين، خاصة وقد نزل فيها من القرآن ما يُتلَى إلى يوم القيامة، فهل بعد حكم الله من أقلام؟! وهل بعد كلام الله من كلمات؟! لكنه زمن تمادَى البعض فيه، فأردنا أن نُذكِّر ذلك البعض؛ ﴿ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف: 164].
وكان أن قالت السيدة عائشة - رضي الله عنها - في تبرئة الله لها، ما ورد في البخاري عن عائشة قالت: ولكني والله ما كنت أظن أن الله - عز وجل - يُنْزِلُ في براءتي وحيًا يُتلَى، ولَشأني في نفسي كان أحقرَ من أن يتكلَّم الله فيَّ بأمرٍ يُتلى، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يُبرِّئني الله بها، فأنزل الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ﴾ [النور: 11] العشر الآيات.
فهي - رضي الله عنها - بعلمها ودرايتها ساهمت في تصحيح المفاهيم، والتوجيه لاتِّباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كان أهلُ العلم يقصدونها للأخذِ من علمها الغزير، فأصبحت بذلك نبراسًا منيرًا يضيء على أهل العلم وطلابه.
تلكم هي عائشة بنت أبي بكر الصديق عبدالله بن عثمان، زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفقه نساء المسلمين وأعلمهن بالقرآن والحديث والفقه.
روت عن الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - علمًا كثيرًا، وقد بلغ مسندُ عائشة - رضي الله عنها (2210) ألفين ومائتين وعشرة أحاديث، وكانت - رضي الله عنها - أفصح أهل زمانها، وأحفظهم للحديث، روى عنها الرواة من الرجال والنساء، وكان مسروقٌ إذا روى عنها يقول: حدَّثتني الصِّديقة بنت الصديق، البريئة المبرَّأة.
تُوفِّيت سنة سبعٍ وخمسين، وقيل: سنة ثمانٍ وخمسين للهجرة، ليلة الثلاثاء لسبعَ عشرةَ ليلةً خلت من رمضان، وأَمَرت أن تُدفَن بالبقيع ليلاً، فدُفِنت وصلَّى عليها أبو هريرة - رضي الله عنه - ونزل قبرها خمسة: عبدالله وعروة ابنا الزبير، والقاسم وعبدالله ابنا محمد بن أبي بكر، وعبدالله بن عبدالرحمن.
لنقرأ ولنستفد، ولنعلم ونعلِّم، في زمانٍ نحن أحوج ما نكون للغوص في بحار تلك السيرة الطاهرة، بدلاً من الغرقِ في سيرة مَن يأنَفُ القلمُ من مجرَّدِ ذكرِهن من مُثيرات الفتن، فهل نحنُ فاعلون؟!
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|