مقدمة:
الحمد الله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصَحْبه أجمعين.
وبعد:
فإذا كان القرآن الكريم سببًا عامًّا يتمثَّل في هداية الناس إلى خالقهم، وتعريفهم بصراطه المستقيم ودستوره القويم - فإن طائفة غير قليلة من آيات القرآن الكريم، نزَلت على أسبابٍ خاصة؛ ليَمتزج الحكم بالواقع، والعلم بالعمل، والنظرية بالتطبيق.
وقد يَزعم زاعمٌ أنَّ أسباب نزول الآيات، لا فائدة من ورائها؛ لأنها روايات تاريخيَّة لا حاجةَ لمعرفتها؛ لأن آيات القرآن الكريم جاءَت منهجًا عامًّا صالحًا لكلِّ زمانٍ ومكان، لا تتوقَّف على شخصٍ أو أشخاصٍ في زمنٍ معيَّنٍ، وقد يتقوَّى هذا الزعم بالقاعدة التفسيريَّة المعروفة: "العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب"، إلاَّ أننا بالنظر إلى الآيات التي نزَلت في مناسبات، نجد أن أغلب هذه الآيات مُرتبط بالتشريع والأحكام، فكان مناسبًا أن تَنزل هذه الآيات على خاصة؛ تُيسِّر حِفظها وفَهْمها، وتُثبت أحكامها، وتُزيل ما قد يَرِد من إبهامٍ، وتَكشف عمَّا قد يَعرض من غموض، ومن ثَمَّ فإن هذا البحث يأتي؛ ليَدفع مثل هذا الزعم المذكور، ويُسفر عن الأهميَّة الكبرى لأسباب النزول، والتي تتمثَّل في إزالة الإشكال، وتوضيح المراد من الآيات القرآنية؛ ليتبيَّن فضْل هذا العلم الجليل، ويتعيَّن العلم به، والوقوف عليه لِمَن يتصدَّى لكتاب الله تعالى، وبالبحث في أسباب النزول وجَدتُ أن أهمَّ صُوَر الإشكال التي تُعين أسبابُ النزول على إزالتها، تتمثَّل في:
أولاً: التعارُض الظاهري بين بعض الآيات القرآنيَّة.
ثانيًا: دَوران الآية بين النسْخ والإحكام.
ثالثًا: عدم تحديد نطاق الآية.
رابعًا: غموض دَلالة الآية.
خامسًا: عدم تحديد المراد من اللفظة القرآنية.
وقبل الحديث عن هذه الصور وأهميَّة أسباب النزول في دفْعها، مهَّدتُ بحديثٍ مُوجز، يُعرِّف بسبب النزول وفوائده، وكذلك يُعرِّف المُشكل ووسائل دفْعه - غير أسباب النزول - كما ذكَرها الزركشي - رحمه الله.
تعريف سبب النزول:
تعدَّدت تعريفات العلماء لسبب النزول، وهي قريبة من بعضها البعض، إلا أنني وجَدتُ تعريف الشيخ الزُّرقاني أتَمَّ هذه التعريفات، وأوْفاها في بيان المعنى؛ يقول: "سبب النزول: هو ما نزَلت الآية أو الآيات مُتحدِّثة عنه، أو مُبَيِّنة لحُكمه أيَّام وقوعه"[1].
من خلال هذا التعريف يُمكننا أن نُحدِّد أركانه فيما يلي:
1- ما نزَل من القرآن بسبب حادثة ما؛ ليُبيِّن حُكم الله فيها؛ مثل: ﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ﴾ [البقرة: 99].
فسببُها ما رُوِي عن ابن عباس رضي الله عنه قال ابن صُوريا الفطيوني للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا محمد، ما جِئتنا بشيءٍ نَعرفه، وما أنزَل الله عليك من آيةٍ، فنتَّبِعَك بها، فأنزَل الله الآية"[2].
2- الحادثة التي كانت سببًا في نزول الآيات مثل هذه الحادثة، قد تكون خصومةً؛ كالخلاف الذي وقَع بين الأوس والخزرج؛ بسبب دسيسة شاس بن قيس اليهودي، حتى أوشَك الفريقان أن يَقْتَتلا، فأنزَل الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 100].
3- زمن وقوع الحادثة للاحتراز عن الآية، أو الآيات التي تَنزل ابتداءً من غير سببٍ، بينما هي تتحدث عن الوقائع والأحوال الماضية أو المُستقبلة؛ كبعض قَصص الأنبياء السابقين، أو أُممهم.
4- حُكم الله الذي نزَلت به الآية؛ مثل: ما نزَل في حُكم الحائض في قوله تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ﴾ [البقرة: 222].
حيث يُروى أنَّ اليهود إذا حاضَت المرأة فيهم، لَم يُؤَاكِلوها، ولَم يُجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزَل الله تعالى هذه الآية، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((اصنَعوا كلَّ شيءٍ إلاَّ النكاح))[3].
فوائد أسباب النزول:
1- الاستعانة على تفسير القرآن.
2- بيان وجْه الحِكمة الباعثة على التشريع، ومعرفة مقاصد الشريعة، وإدراك مُراعاة الشرع لمصلحه الأُمة أفرادًا وجماعات.
3- تخصيص الحُكم بالسبب عند مَن يرى أنَّ العبرة بخصوص اللفظ، لا بعموم السبب.
4- تيسير الحفظ، وتسهيل الفَهم وتثبيت الوحي.
5- الوقوف على بلاغة القرآن الكريم؛ حيث مراعاة الكلام لمقتضى الحال.
6- أن تكون الأُمة أكثر صِلة بالله، وأقوى تعليق به.
تعريف المُشكل ووسائل دَفْعه:
جاء في لسان العرب: أشكَل الأمر: الْتبَس، وأمور أشكال: مُلتبسة، وأشكَل عليّ الأمر؛ أي: إذا اختلَط.
وسمَّاه السيوطي مُوهِمَ الاختلاف والتناقض، وقال: ما هو يُوهم التعارُض بين آياته، والصحيح أنَّ المُشكل هو كلُّ ما يَلتبس فَهمه على الناس؛ لعدم وضوح المراد من ظاهر لفظه لسببٍ ما، وقد ذكَر الزركشي في كتابه "البرهان" أمورًا تُعين على دفْع الإشكال.
1- ردُّ الكلمة لضدها؛ مثل: ﴿ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 24]؛ أي: ولا كفورًا، وطريقته أن يردّ النهي إلى ضدِّه، وهو الأمر، فيكون المعنى: أَطِع منهم آثمًا أو كفورًا؛ أي: أَطِع أحدهما، وعلى هذا يكون معناه في النهي، ولا تُطع واحدًا منهما.
2- ردُّ الكلمة إلى نظيرها، ومثاله في كفارة اليمين: ﴿ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ﴾ [المائدة: 89].
فإن الرقبة هنا مُطلقة، ولو تتبَّعنا نظائر ذلك، لوجَدناها قد قُيِّدت بالإيمان.
3- النظر فيما يتَّصل بالآية؛ من خبرٍ أو شرطٍ، أو إيضاح معنًى آخَر؛ مثاله: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ﴾ [البقرة: 187].
فبهذا القدر يقع إشكالٌ، وبِتَبْيِنَته من الفجر قد زالَ.
4- دَلالة السياق، فإنها تُرشد إلى تبيُّن المُجمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وهو من أعظم القرائن الدالة على مُراد المتكلم، فمَن أهمَله، غَلِط في نظيره، وغالَط في مناظراته، وانظُر إلى قوله تعالى: ﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ﴾ [الدخان: 49]، كيف نجد السياق يدلُّ على أنه الذليل الحقير؟
5- ملاحظة النقل عن المعنى الأصلي، وذلك أنه قد يُستعار الشيء لمُشابهةٍ، ثم يُستعار من المُشابه لمُشابهة المُشابه، ويتباعد عن المسمَّى الحقيقي بدرجات، فيذهب عن الذِّهن الجهة المُسوِّغة لنقْله من الأوَّل إلى الآخر، وطريقة معرفة ذلك بالتدريج؛ كقوله تعالى: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 28].
فأصل معنى (دون) للمكان الذي أنزلَ من مكان غيره, منه الشيء الحقير, ثم استُعير للتفاوت في الأحوال والرُّتب، فقيل: زيد دون عمرو في العلم والشرف، ثم اتَّسَع، فاسْتُعير في كلِّ ما تَجاوَز حدًّا إلى حدٍّ، وتَخطَّى حُكمًا إلى حُكمٍ آخَر؛ كما في الآية، فيكون المعنى لا تَتجاوَزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين.
6- السلامة من التدافُع، وذلك كقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ﴾ [التوبة: 122]، إذ تَحمل معنيين.
7- أنَّ الطوائف لا تَنفر من أماكنها وبَواديها جُملةً، بل بعضهم يَنفر؛ لتحصيل التفقُّه بوفودهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذا رجَعوا إلى قومهم، أعلَموهم بما حصَل لهم.
8- أن يكون المراد بالفئة النافرة: هي مَن تسير مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مَغازيه وسراياه، والمعنى: ما كان أن يَنفروا أجمعين مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مَغازيه؛ لتحصيل المصالح المتعلِّقة ببقاء مَن يبقى في المدينة، والفئة النافرة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تتفقَّه في الدين؛ بسبب ما يُؤْمَرون به ويَسمعون منه - صلى الله عليه وسلم - فإذا رجَعوا إلى مَن بَقِي بالمدينة، أعلَموهم بما حصَل لهم في صُحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والأقرب من هذين الاحتمالين هو الأوَّل؛ لأن الثاني يُخالف ظاهر قوله تعالى: ﴿ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ﴾ [النساء: 71].
فإن ذلك يَقتضي؛ إمَّا طلب الجميع بالنفير، أو إباحته، وذلك في ظاهره يُخالف النهي عن نفْر الجميع، وإذا تعارَض مجملان، يَلزم من أحدهما معارضته، ولا يَلزم من الآخر، فالثاني أوْلَى[4].
صور الإشكال المدفوعة بسبب النزول:
أولاً: التعارض الظاهري بين الآيات:
إنَّ النظرة السريعة للقرآن الكريم، غير المحيطة بعلوم القرآن، المُعينة على بيانه وتفسيره - قد تُوهم أحيانًا أنَّ هناك تعارُضًا بين بعض الآيات، فقد تجد آيتين ورَدتا في موضوع واحدٍ، غير أنَّ كلاًّ منهما تَحمل حُكمًا غير ما تحمله الأخرى، فتبدوَان وكأنهما متعارضتان، إلاَّ أنَّ الواقف على علوم القرآن، المحيط بمقاصد الشريعة، يُدرك أنَّ هذا التعارض ظاهري فحسب؛ حيث لا تعارُض حقيقي بين نصوص الشريعة الغرَّاء.
فالتعارض: هو تقابُل الحجتين المتساويتين على وجهٍ يوجب كل واحدٍ منهما ضد ما تُوجبه الأخرى؛ كالحِل والحُرمة، والنفي والإثبات[5].
وهو بهذا المعنى مُحال في شريعتنا، فمصدرها واحد وهو الله تعالى، فإذا بدا تعارُض بين نصين، فإنما هو تعارُض ظاهري فقط، بحسب ما يبدو لعقولنا، وليس بتعارُضٍ حقيقي؛ لأن الشارع الواحد الحكيم، لا يُمكن أن يَصدر عنه دليلٌ يَقتضي حُكمًا في واقعة، ويَصدر عنه نفسه دليلٌ آخر يَقتضي في الواقعة نفسها حُكمًا خلافه في الوقت الواحد[6].
ومما يُعين على إزالة هذا التعارُض الظاهري: الوقوف على أسباب النزول؛ حيث تَكشف هذه الأسباب عن الدَّلالات المختلفة للآيات، وتَجعل لكلِّ آية مناسبتها الخاصة بها؛ مما يَنفي وقوع التعارُض بينها، وبين غيرها من الآيات؛ مثال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 23].
هذه الآية تَشمل وعيدًا باللعنة والعذاب العظيم لكلِّ مَن قذَف المحصنات، ولَم تُفرِّق بين مَن تابَ، ومَن لَم يَتُب في حين أننا نقرأ قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 4 - 5].
بالعودة إلى سبب النزول، نجد أنَّ الآيتين ليس بينهما تعارُض؛ حيث إنَّ الآية الأولى نزَلت في السيدة عائشة - رضي الله عنها - بعد حادثة الإفك المعروفة؛ فقد روَى ابن جرير الطبري عن عمر بن أبي سَلمة عن أبيه، قال: قالت عائشة: رُمِيتُ بما رُمِيت به وأنا غافلة، فبلَغني بعد ذلك، فبينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندي جالس؛ إذ أُوحِي إليه، وكان إذا أُوحِي إليه، أخَذه كهيئة السبات، وإنه أُوحِي إليه وهو جالس عندي، ثم استوى جالسًا يَمسح عن وجهه وقال: ((يا عائشة، أبْشِري))، فقالت: فقلتُ: بحمد الله، لا بحمدك، فقرأ: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [النور: 23]، حتى بلَغ: ﴿ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ﴾ [النور: 26][7].
كما رُوِي عن سعيد بن جُبير أنه سُئِل: الزنا أشد أم قذف المُحصنة، فقال: الزنا، فقيل له: أليس يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 23].
قال سعيد: إنما كان ذلك لعائشة خاصة[8]، ويتبيَّن من ذلك أنَّ الآية الأولى نزَلت في السيدة عائشة، ويَستتبع ذلك غيرها من زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - فالقاذف لهنَّ لا توبة له، أمَّا الآية الأخرى، ففي عموم نساء المسلمين، فالقاذف لهنَّ تُرجى له التوبة مع إصلاح ما أفسَده في حقِّ المسلمات المُحصنات، فالفرق بينهم واضحٌ؛ حيث إن مَن يَقذف امرأة عادية، فإنه يَقذف امرأة واحدة، أمَّا ما يتعرَّض لبيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يُؤذي امرأة واحدة، بل يُؤذي أُمَّة بأسْرها بالطَّعْن في عرْض نبيِّها، ومِن ثَمَّ فقد ناسَب أن يتوعَّده الله بهذا الوعيد الذي يَمنع قَبول توبة المُتجرِّئين على بيت النبوَّة.
ثانيًا: دوران الآية بين النسْخ والإحكام:
ذهَب جمهور العلماء إلى جواز وقوع النسخ في القرآن الكريم، وَفْق ما صرَّحت به نصوص الكتاب؛ حيث يقول الله تعالى: ﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 106].
مثاله قوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 115].
هذه الآية من الآيات التي ادُّعِي أنها منسوخة؛ حيث إنَّ مفادها أنَّ المسلم له أن يُصلي متَّجهًا حيث شاء؛ سواء كان مقيمًا، أو مسافرًا؛ سواء كانت صلاته فرضًا، أو نفلاً، والآية بذلك على قول بعض العلماء - وعلى رأسهم ابن عباس[9] - منسوخة، وناسخُها قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: 150].
وبالرجوع إلى أسباب النزول تَبطُل دعوى النَّسخ، ويتَّضح أنَّ الآية الُمدَّعى نسخُها تَحمل حكمًا غير ما تَحمله الآية الأخرى؛ فقد رُوِي عن عبدالله بن عامر بن ربيعة عن أبيه، قال: كنَّا مع الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة في ليلة سوداء مُظلمة، فلم نَعرف القِبلة، فذكَرنا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزَل الله: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 115].
وبهذا يُعلم أنَّ الآية خاصة بالمجتهد إذا صلَّى، وهو لا يَعرف القِبلة، ثم يتبيَّن له خَطؤه، فإنه لا يُعيد الصلاة، وكذلك في الصلاة النافلة للمسافر على راحلته، فلا يجب عليه التوجُّه إلى القبلة تخفيفًا عليه، وكذالك الخائف.
ثالثًا: عدم تحديد نطاق الآية:
فقد تدلُّ ألفاظ الآية على ما يُفيد الحصر في موضوعها، فيأتي سبب النزول؛ ليدفع توهُّم الحصر فيها، أو تكون الآية عامة، ثم يُبيِّن سبب النزول أنَّ المقصود به حالة خاصة من حالاته، ومثاله في دفْع توهُّم الحصْر قوله تعالى: ﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 145].
فظاهر الآية أنَّ المحرَّمات محصورة في المحرَّمات الأربعة المذكورة، فالنفي والاستثناء دليلٌ على أن التحريم محصور فقط في هذه الأصناف الأربعة، وبالرجوع إلى أسباب النزول يتبيَّن لنا أن الحصر غير مقصودٍ، فقد ذكَر الإمام الشافعي - رحمه الله - أنَّ الآية نزَلت بسبب أولئك الكفار الذين أبَوْا إلاَّ أن يُحرِّموا ما أحلَّ الله، ويُحلوا ما حرَّم الله؛ مناقضة للشريعة، ومُحادة لله ورسوله؛ إذ إنَّ هذا حصر صوري؛ مُشادة ومُحادَّة من الله ورسوله، لا قصدًا إلى حقيقة الحصر؛ لأنه تُوجَد محرَّمات أخرى؛ مثل: تحريم كلِّ ذي نابٍ من السباع، وكلِّ ذي مخلبٍ من الطَّيْر.
رابعًا: غموض دلالة الآية:
مثال قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيم ﴾ [البقرة: 158].
ظاهر هذه الآية يَنفي الجُناح عن تارك السعي بين الصفا والمروة، إلاَّ أن نفي الجناح يدلُّ على الإباحة لا على الوجوب، وهذا ما فَهِمه عروة بن الزبير - رضي الله عنه - حين سأل خالته عائشة أمَّ المؤمنين - رضي الله عنها - التي صَوَّبت فَهْمه الشرعي، وأزالَت إشكاله بذِكرها مناسبةَ نزولها؛ روَى البخاري ومسلم عن عروة، قال: سألت عائشة - رضي الله عنها - فقلتُ لها: أرأيتِ قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيم ﴾، فو الله، ما على أحد جناح ألاَّ يطوَّفَ بالصفا والمروة، قالت: بِئس ما قلتَ يا بن أختي، إنَّ هذه لو كانت كما أوَّلتَها عليه، كانت لا جُناح عليه ألاَّ يَطوَّف بهما، ولكنَّها أُنزِلت في الأنصار، كانوا قبل أن يُسلموا يُهلُّون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المُشَلَّل، فكان مَن أهلَّ يتحرَّج أن يطوفَ بين الصفا والمروة، فلمَّا أسْلَموا، سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، قالوا: يا رسول الله، إنَّا كنَّا نتحرَّج أن نطوفَ بين الصفا والمروة، فأنزَل الله تعالى هذه الآية.
ومن ذلك يتبيَّن أن نفي الجناح في الآية ليس معناه نفي الفريضة، وإنما هو نفي لِما اعتقدَه المسلمون الأوائل من أنَّ السعي بين الصفا والمروة من عملِ الجاهليَّة؛ حيث كان للمشركين كما يقول الشعبي - رضي الله عنه - صنمٌ على الصفا يُقال له: إساف، وكان على المروة صنم يقال له: نائلة، وكان المشركون يطوفون ويتمسَّحون بهما، فلمَّا جاء الإسلام، تحرَّج المسلمون أن يَسعوا بينهما[10].
خامسًا: عدم تحديد المراد من اللفظة القرآنية:
مثال قوله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143].
فلفظ الإيمان يَحتمل الإيمان بمعناه المعروف، وهو التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح، وقد يَحتمل أيضًا الصلاة؛ لأنَّ الآية في سياق الحديث عن تحويل القِبلة في الصلاة من بيت المقدس إلى الكعبة المُشرَّفة، وبالرجوع إلى أسباب النزول، يتبيَّن أنَّ المراد بها هنا الصلاة؛ روى البخاري عن البراء بن عازب، قال: كان قد مات على القبلة قبل أن تُحوَّل رجالٌ، قُتِلوا، لَم ندرِ ما نقول فيهم، فأنزَل الله: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾.
فالصحابة كانوا يَظنون أن نسخَ حُكمٍ ما يجعل المنسوخ باطلاً، فلا تترتَّب عليه آثار العمل به، أمَّا عن تَكْنِيَة الإيمان بالصلاة، فيقول ابن عطية: وسمَّى الصلاة إيمانًا، لما كانت صادرة عن الإيمان والتصديق في وقت بيت المقدس، وفي وقت التحويل، ولما كان الإيمان قطبًا عليه تدور الإعمال، وكان ثابتًا في حال التوجُّه هنا وهنا ذِكْرُه؛ إذ هو الأصل الذي به يرجع في الصلاة وغيرها إلى الأمر والنهي، ولئلاَّ تَندرج في اسم الصلاة صلاة المنافقين إلى بيت المقدس، فذكَر المعنى الذي هو ملاك الأمر.