من صفات عباد الرحمن: ملازمة التوبة
الحمد لله الذي فتح أبواب رحمته لمن تاب، ووعد كل التائبين بالمغفرة والثواب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، الغفور التواب،شهادةً تكون لنا يوم القيامة نجاةً وسلامًا من العذاب، وأشهدُ أن سيدنا محمدًا عبدُه ورسوله الأوَّاب، كان يبين أن الله يحب من استغفره وتاب إليه وأناب، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وكافةِ الأصحاب، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الحساب ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18]، أما بعد:
فيا أيها المؤمنون والمؤمنات، إن الحديث عن صفات عباد الرحمن ومكارمِهم، يبعث النفوس على الاقتداء بهم والسير على طريقهم، للفوز بمَعيتهم في الجنة ومُقامهم.
ولا بُدَّ من التنبيه إلى أن عباد الرحمن الذين نتحدث عن صفاتهم، ليسوا من الملائكة الذين ﴿ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴾ [الأنبياء: 20]، وليسوا من الأنبياء المعصومين من الخطأ، فلا يُذنبون؛ بل هم من عامة بني آدم، ومن طبيعة بني آدم الوقوعُ في الخطأ، فليس العيبُ أن يقع الإنسان في الذنب، لكن العيبَ أن يبقى مُصِرًّا عليه ولم يتب.
ولذلك كانت من أهم صفات عباد الرحمن؛ ملازمةُ التوبة، فيستغفرون الله ويتوبون، ويرجعون إليه وينيبون، قال الله تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ﴾ [الفرقان: 70، 71].
والتوبة معناها الرجوعُ إلى الله؛ لأن وقوع الإنسان في الذنوب والمعاصي يبعده عن عفو الله ورحمته، وقد يُعرِّضه ذلك لعذابه ونقمته، في دنياه قبل آخرته، فما الذي أدَّى إلى هذا الجفاف والجفاء، والقحط والغلاء، وظهور الأمراض والأزَمات، إلا ما اقترفه ابن آدم من الذنوب والسيئات، قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]، وما الذي أدَّى بمَنْ دخل جهنم حتى دخلها، ويَصلى نارها ويذوق عذابها، إلا بسبب ما كسبت يده من الذنوب واقترفتها، قال الله تعالى عنهم لما سُئِلوا عن السبب: ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴾ [المدثر: 42 - 46].
فالذنوب مهلكة للإنسان هلاكًا لا حدود له؛ لأنها تُبْعِده عن الله؛ لذلك أحتاج إلى التوبة ليجدد بها العهد مع الله، ويعودَ قربًا إليه، ويا سعادة من كان قريبًا من الله؛ لأنه جَلَّ وعلا يفرح بتوبة التائبين، وبإقبال المتقربين، يقول سبحانه في الحديث القدسي: «إِذَا تَقَرَّبَ العَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»[1]، فالتوبة باب عظيم من أبواب التقرُّب إلى الله تعالى؛ ولذلك ندرك لماذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من التوبة والاستغفار، ويأمر أتباعه بذلك، رغم أن الله تعالى قد غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، وقال صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إلى اللهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ، فَإِنِّي أَتُوبُ إلى اللهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ...»[2].
وقد كانت للصحابة الكرام مواقف عجيبة في توبتهم، ورجوعهم إلى الله واستقامتهم، فكان الواحد منهم إذا تاب من السيئات، يجاهد نفسه في عمل الصالحات، ليصلح خطأه ويستدركه بالحسنات، يصدق عليهم قول الله تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا ﴾ [الفرقان: 70].
سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل في جِدال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية حتى غضب النبي صلى الله عليه وسلم -والجدال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خطأ عظيم- فكان عمر رضي الله عنه بعد ذلك يقول: ما زلتُ أصوم وأتصدَّق، وأصلي وأُعتق خوفًا من الذي صنعته مع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى رجوت أن يكون خيرًا"[3] فهو عمِل كثيرًا من الأعمال الصالحات، حتى يُكَفِّرَ عن الذي صار منه وفات.
وهذا ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن، أن تكون توبته من ذنب ما وخطيئة، متبوعةً بكثير من الأعمال الصالحة، يمحو بها كل سيئة.
وهذا عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه كان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربه في حروب كثيرة، وقتل العديد من الصحابة، لكن سبحان من كتب له الهداية والإسلام، فقد ندم على ما كان منه وجاء ليعلن إسلامه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا وَاللَّهِ لَا أَدَعُ نَفَقَةً كُنْتُ أُنْفِقُهَا فِي صَدٍّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا أَنْفَقْتُ ضِعْفَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا قِتَالًا كُنْتُ أُقَاتِلُ فِي صَدٍّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا أَبْلَيْتُ ضِعْفَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"[4]،ووَفَّى رضي الله عنه بكلامه، حتى سقط شهيدًا في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
فانظروا -رحمكم الله- كيف حرص على أن يستدرك ما فاته من الخير، ما من مال كان قد أنفقه في محاربة الإسلام، إلا ينفق ضعفه في نصرة الإسلام... هكذا تكون التوبة الصادقة، أن يجتهد الواحد في تدارك ما فاته من الأعمال الصالحة.
والمؤمنون الصادقون حين يسمعون مثل هذه القصص، تلين قلوبهم وتتأثَّر، ويجاهدون أنفسهم في إصلاح ما تقدَّم وما تأخَّر، ويقبلون على ربهم تائبين، مستغفرين منيبين.
فيا من يُضيِّع صلاته، ويا من لا يؤدي زكاة ماله، ويا من يغش في عمله وتجارته، ويا من قطع صلة أرحامه، يا من يسيء إلى جيرانه، ويا من لا يتورَّع عن الوقوع في المنكرات، ويا من يتعامل بالرشوة والربا والمال الحرام- تُبْ إلى الله، وسَلْه أن يغفر لك ما مضى من الذنوب والآثام ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]، فاللهم يا ﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23] نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبحديث سيد المرسلين، وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين، والحمد لله ربِّ العالمين، ادعوا الله يستجِبْ لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أما بعد:
فيا عباد الله، إن من المناسب التنبيهَ إلى أن التوبة لها شروط: وهي الندم، والإقلاع عن الذنب وتركُه، ونية عدم العودة إلى الذنب مرة أخرى، وتدارُك ما يمكن تداركه، كَردِّ المظالم والحقوق إلى أهلها.
وإن من رحمة الله أن فتح باب التوبة لكل فرد من عباده، مهما كان ذنبه ومعصيته، وإثمه وخطيئته، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»[5]، فمن تاب إلى الله؛ تاب عليه وقَبِل توبته.
بل إن من فضل الله تعالى على التائبين الصادقين أن﴿ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾ [الفرقان: 70]، والمعنى: يتبدَّل شركُهم إيمانًا، ومعصيتهم طاعةً، وتتبدَّل نفس السيئات التي عملوها ثم أحدثوا عن كل ذنب منها توبة وإنابة وطاعة تبدل حسنات"[6]، والله تعالى يقول: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114]، فاللهم تُبْ علينا ووفِّقنا جميعًا لعمل الصالحات يا رب العالمين.
هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على النبي الأمين، فقد أمركم بذلك مولانا الكريم ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت وسلمت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
وارْضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة الأكرمين، خصوصًا الأنصار منهم والمهاجرين، وعن التابعين ومن تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، وأَدِمْ عَلَى بلدنا الأَمْنَ والأَمَانَ وَعلَى سَائِرِ بِلادِ الْمُسْلِمِينَ، اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم أنزل السكينة في قلوبنا، وزدنا إيمانًا مع إيماننا، واهدنا وأصلِح بالَنا وأدخلنا الجنة يا رب العالمين، اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللَّهُمَّ إنا نسألكَ الجنةَ لنا ولوالدينَا ولأشياخنا، ولمَن له حقٌّ علينَا، ولجميع المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201] ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 - 182].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|