تذكرة الأبرار بعشر صفحات من حياة النبي المختار قبل البعثة
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي زيَّن قلوب أولياءه بأنوار الوفاق، وسقى أسرار أحبائه شرابًا لذيذَ المذاق، وألزم قلوب الخائفين الوَجَلَ والإشفاق، فلا يعلم الإنسان في أي الدواوين كُتب، ولا في أي الفريقين يُساق، فإن سامح فبفضله، وإن عاقب فبعدله، ولا اعتراض على الملك الخلَّاق.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة أعدها من أكبر نِعَمِه وعطائه، وأعدها وسيلة إلى يوم لقائه، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبدالله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، البشير النذير، السراج المنير، الذي عمَّ نوره الآفاق، والنور الذي لا يعترض ضياءه كسوف ولا محاق، الحبيب القريب الذي أُسريَ به على البُراق، إلى أن جاوز السبع الطِّباق.
يا سيدي يا رسول الله:
وأحسن منك لم تر قطُّ عيني
وأجمل منك لم تلد النساء
خُلقتَ مبرَّأً من كل عيب
كأنك خُلقتَ كما تشاءُ
وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه، وتمسك بسنته، واقتدى بهديه، واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن معهم يا أرحم الراحمين؛ أما بعد:
فيا إخوة الإسلام: حديثنا في ذلك اليوم الطيب الميمون الأغر مع حبيب القلوب، حبيب علام الغيوب، مع سيد ولد آدم، مع من بعثه ربه رحمة للعالمين؛ لنقف مع عشر صفحات من حياته منذ ولادته صلى الله عليه وسلم، وحتى مبعثه، فأعيروني القلوب والأسماع.
الصفحة الأولى: ليلة ميلاد خير العباد:
الصفحة الأولى صفحة الميلاد، صفحة انتظرتها البشرية طويلًا؛ ليأخذ بأيدي الحيارى إلى رب البرايا
وُلِدَ الهدى فالكائنات ضياء
وفمُ الزمان تبسُّمٌ وثناءُ
الروح والملأ الملائكُ حوله
للدين والدنيا به بُشراءُ
والعرش يزهو والحظيرة تزدهي
والمنتهى والسدرة العصماءُ
يوم يتيه على الزمان صباحه
ومساؤه بمحمدٍ وضَّاءُ
الحق عالي الركن فيه مظفَّر
في الملك لا يعلو عليه لواءُ
ذُعرت عروش الظالمين فزُلزلت
وعَلَت على تيجانهم أصداءُ
والنار خاوية الجوانب حولهم
خمدت ذوائبها وغاض الماءُ
والآي تَتْرى والخوارق جمَّة
جبريل روَّاح بها غدَّاءُ
نِعْمَ اليتيم بدت مخايل فضله
واليُتْمُ رزق بعضه وذكاءُ
عباد الله، ومن الآيات التي ظهرت عند ولادته صلى الله عليه وسلم أن أمه رأت نورًا خرج منها أضاء لها قصور الشام؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نورٌ أضاء له قصور الشام))[2].
قال ابن رجب رحمه الله: "وخروج هذا النور عند وضعه إشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض، وأزال به ظلمة الشرك منها؛ كما قال تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15، 16] وقال تعالى: ﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157][3].
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45، 46].
وقال تعالى: ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [الصف: 8، 9].
عباد الله، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((أضاء له قصور الشام))؛ قال ابن كثير رحمه الله: "وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه وثبوته ببلاد الشام؛ ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلًا للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسى ابن مريم؛ ليكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويحكم في الناس بشريعة الإسلام؛ ولهذا جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك))[4].
الصفحة الثانية: شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بني سعد:
والصحفة الثانية صفحة إعداد وتهيئة لخير مبعوث، خير مرسل، صلى الله عليه وسلم؛ إنها صفحة تحكي لنا حادثة كبرى؛ ألا وهي شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم، نقف مع أغرب حادثة حدثت للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في بني سعد؛ إنها حادثة شق صدره الشريف، تعد حادثة شق الصدر التي حصلت له عليه الصلاة والسلام أثناء وجوده في مضارب بني سعد من إرهاصات النبوة، ودلائل اختيار الله إياه لأمر جليل.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتاه جبريل صلى الله عليه وسلم، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طَسْتٍ من ذهب بماء زمزم، ثم لَأَمَهُ، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني: ظِئره - فقالوا: إن محمدًا قد قُتل، فاستقبلوه وهو مُنْتَقِع اللون، قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المِخْيَطِ في صدره))؛ [رواه مسلم].
ولا شك أن التطهير من حظ الشيطان هو إرهاص مبكر للنبوة، وإعداد للعصمة من الشر وعبادة غير الله، فلا يحل في قلبه إلا التوحيد الخالص، وقد دلت أحداث صباه على تحقُّق ذلك؛ فلم يرتكب إثمًا، ولم يسجد لصنم، رغم انتشار ذلك في قريش.
الصفحة الثالثة: رعي خير الأنام صلى الله عليه وسلم للأغنام:
الصفحة الثالثة صفحة الإعداد لقيادة الأمة، وهي فترة تأهيل وتدريب على سياسة الرعية، فقد اشتد ساعد النبي صلى الله عليه وسلم وأصبح يستطيع العمل والاكتساب، وكان أبو طالب مقلًّا في الرزق، فعمِل النبي صلى الله عليه وسلم في رعي الغنم؛ مساعدة منه لعمه، فلقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن نفسه الكريمة وعن إخوانه من الأنبياء أنهم رعَوا الغنم، أما هو فقد رعاها لأهل مكة وهو غلام وأخذ حقه عن رعيه؛ ففي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط)[5]، إن رعْيَ الغنم كان يتيح للنبي صلى الله عليه وسلم الهدوء الذي تتطلبه نفسه الكريمة، ويتيح له المتعة بجمال الصحراء، ويتيح له التطلع إلى مظاهر جلال الله في عظمة الخلق، ويتيح له مناجاة الوجود في هدأة الليل، وظلال القمر، ونسمات الأشجار.
إن الله قادر على أن يُغنيَ محمدًا صلى الله عليه وسلم عن رعي الغنم، ولكن هذه تربية له ولأمَّته للأكل من كسب اليد، وعرق الجبين، ورعي الغنم نوع من أنواع الكسب باليد، وصاحب الدعوة يجب أن يستغني عما في أيدي الناس، ولا يعتمد بدعوته عليهم، فبذلك تبقى قيمته وترتفع منزلته، ويبتعد عن الشُّبَهِ والتشكيك فيه، ويتجرد عمله لله تعالى؛ روى البخاري عن المقدام رضي الله عنه عن رسول الله قال: ((ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده))[6].
ولا شك أن الاعتماد على الكسب الحلال تكسب الإنسان الحرية التامة، والقدرة على قول كلمة الحق والصدع بها[7]، وكم من الناس يُطَأطئون رؤوسهم للطغاة، ويسكتون على باطلهم، ويجاورونهم في أهوائهم خوفًا على وظائفهم عندهم![8].
الصفحة الرابعة: حفظ الله تعالى نشأة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فلم يسجد لصنم، ولم يأكل ما ذُبح على النُّصُب، ولا ارتكب فاحشة قط، رغم أن المجتمع الذي يعيش فيه قد انتشرت فيه المنكرات والمحرمات، وعبادة الأوثان والأصنام؛ عن عروة بن الزبير قال: حدثني جار لخديجة بنت خويلد رضي الله عنها أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول لخديجة: ((أي خديجة، والله لا أعبد اللاتَ أبدًا، والله لا أعبد العُزَّى أبدًا، قال: فتقول خديجة: خلِّ اللات، خلِّ العزى، قال: وكانت صنمهم التي كانوا يعبدون، ثم يضطجعون...))[9].
و مما يدل - عباد الله - على أنه لم يأكل مما ذُبح على النصب ما أخرجه البخاري عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((لقِيَ النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن عمرو بن نفيلٍ بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحيُ، فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة، فأبى زيد أن يأكل منها، ثم قال: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه، وكان زيد يعيب على قريشٍ ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله؟ إنكارًا لذلك وإعظامًا له))[10].
الصفحة الخامسة: مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في حرب الفِجَار:
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم في شبابه منعزلًا عن أحوال قومه، بل كان يشاركهم في همومهم، وفي مناسبتها التي لا تخالف فطرته السليمة، وها هو يشارك في حرب الفجار، وسميت يوم الفجار؛ بسبب ما استُحِلَّ فيها من حُرُمات مكة التي كانت مقدَّسة عند العرب[11].
وقد قال صلى الله عليه وسلم عن تلك الحرب: ((كنت أُنبِّل على أعمامي))؛ أي: أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها[12].
وكان صلى الله عليه وسلم حينئذٍ ابن أربع عشرة أو خمس عشرة سنة، وقيل: ابن عشرين، ويرجح الأول؛ لأنه كان يجمع النبال، ويناولها لأعمامه، مما يدل على حداثة سنه.
وبذلك اكتسب الجرأة والشجاعة، والإقدام، وتمرن على القتال منذ ريعان شبابه، وهكذا انتهت هذه الحرب التي كثيرًا ما تشبه حروب العرب تبدؤها، حتى ألَّف الله بين قلوبهم، وأزاح عنهم هذه الضلالات بانتشار نور الإسلام بينهم[13].
الصفحة السادسة: مشاركته في حلف الفضول:
ومن مشاركته المجتمعية والأخلاقية التي ربَّت في نفسه محبة العدل، وإنصاف المظلوم، والأخذ على يد الظالم مشاركتُه في حلف الفضول، وقد حضر هذا الحلف النبي صلى الله عليه وسلم الذي هدموا به صرح الظلم، ورفعوا به منار الحق، وهو يعتبر من مفاخر العرب وعرفانهم لحقوق الإنسان[14]؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((شهدت حلف المُطيَّبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحبُّ أن لي حُمْرَ النَّعَمِ، وأني أنكُثُه))[15].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حُمْرَ النعم، ولو دُعيت به في الإسلام لأجبت))[16].
وعلى المسلم أن يكون في مجتمعه إيجابيًّا فاعلًا، لا أن يكون رقمًا من الأرقام على هامش الأحداث في بيئته ومجتمعه؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم محطَّ أنظار مجتمعه، وصار مضرب المثل فيهم، حتى لقبوه بالأمين، وتهفو إليه قلوب الرجال والنساء على السواء؛ بسبب الخلق الكريم الذي حبا الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم، وما زال يزكو وينمو حتى تعلقت قلوب قومه، وهذا يعطينا صورة حية عن قيمة الأخلاق في المجتمع، وعن احترام صاحب الخُلُق ولو في المجتمع المنحرف[17].
الصفحة السابعة: تجارته في مال خديجة رضي الله عنها:
فقد كانت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها أرملة[18] ذات شرف ومال، تستأجر الرجال ليتَّجِروا بمالها، فلما بلغها عن محمد صدقُ حديثه، وعِظَمُ أمانته، وكرم أخلاقه، عرضت عليه أن يخرج في مالها إلى الشام تاجرًا، وتعطيه أفضل ما تعطي غيره من التجار، فقبل وسافر معه غلامها ميسرة، وقدما الشام، وباع محمد سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد من السلع، فلما رجع إلى مكة وباعت خديجة ما أحضره لها، تضاعف مالها.
وقد حصل محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة على فوائد عظيمة، بالإضافة إلى الأجر الذي ناله؛ إذ مر بالمدينة التي هاجر إليها من بعدُ، وجعلها مركزًا لدعوته، وبالبلاد التي فتحها ونشر فيها دينه، كما كانت رحلته سببًا لزواجه من خديجة بعد أن حدَّثها ميسرة عن سماحته وصدقه، وكريم أخلاقه[19].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد:
الصفحة الثامنة: اشتراكه في بناء الكعبة الشريفة:
لما بلغ محمد صلى الله عليه وسلم خمسًا وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لتجديد بناء الكعبة؛ لِما أصابها من حريق وسيل جارف صدَّع جدرانها، وكانت لا تزال كما بناها إبراهيم عليه السلام رَضْمًا[20] فوق القامة، فأرادوا هدمها ليرفعوها ويسقفوها، ولكنهم هابوا هدمها، وخافوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المِعْوَلَ، ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم نُزِغْ، ولا نريد إلا الخير.
وهدم من ناحية الركن، فتربص الناس تلك الليلة وقالوا: ننظر، فإن أُصيب لم نهدم منها شيئًا، ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء، فقد رضيَ الله ما صنعنا، فأصبح الوليد غاديًا يهدم، وهدم الناس معه حتى انتهوا إلى حجارة خضرة كالأسمنة[21]، آخذ بعضها ببعض.
وكانوا قد جزَّؤوا العمل، وخصوا كل قبيلة بناحية، واشترك سادة قريش وشيوخها في نقل الحجارة ورفعها، وقد شارك النبي صلى الله عليه وسلم وعمه العباس في بناء الكعبة، وكانا ينقلان الحجارة، فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: ((اجعل إزارك على رقبتك، يقيك من الحجارة، فخرَّ إلى الأرض[22]، وطمحت عيناه إلى السماء ثم أفاق، فقال: إزاري إزاري، فشُدَّ عليه إزاره[23]))، فلما بلغوا موضع الحجر الأسود، اختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، وكادوا يقتتلون فيما بينهم، لولا أن أبا أمية بن المغيرة، قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب المسجد، فلما توافقوا على ذلك، دخل محمد صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه، قالوا: هذا الأمين، قد رضينا فلما أخبروه الخبر، قال: هلموا ثوبًا، فأتوه به، فوضع الركن فيه بيديه، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوا جميعًا، فرفعوه، حتى إذا بلغوا موضعه وضعه بيده ثم بنى عليه.
الصفحة التاسعة: حب النبي صلى الله عليه وسلم للخلوة:
ولما تقاربت سن النبي صلى الله عليه وسلم الأربعين، حبَّب الله تعالى إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهجر مكة كل عامٍ؛ ليقضي شهر رمضان في غار حراء[24]، وكان ذلك مما تحنَّثت[25] به قريش في الجاهلية.
قال ابن أبي جمرة: "الحكمة في تخصيصه صلى الله عليه وسلم بالتخلي في غار حراء أن المقيم فيه كان يمكنه رؤية الكعبة، فيجتمع لمن يخلو فيه ثلاث عباداتٍ: الخلوة، والتعبد، والنظر إلى البيت".
روى الشيخان في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أول ما بُدِئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم... ثم حُبِّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد))[26].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قضى جواره[27] من شهره ذلك، كان أول ما يبدأ به إذا انصرف قبل أن يدخل بيته أن يذهب إلى الكعبة، فيطوف بها سبعًا، أو ما شاء الله تعالى من ذلك، ثم يرجع إلى بيته.
وظل النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ثلاث سنواتٍ إلى أن جاءه الوحي وهو في إحدى خلواته تلك[28].
الصفحة العاشرة: تسليم الحجر والشجر على النبي صلى الله عليه وسلم:
روى الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعرف حجرًا بمكة كان يُسلِّم عليَّ قبل أن أُبعث، إني لأعرفه الآن)).
وروى الترمذي والحاكم في المستدرك بسندٍ ضعيفٍ عن علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه قال: ((كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله جبل، ولا شجر، إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله))[29].
وروى ابن إسحاق عن بعض أهل العلم: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله تعالى كرامته، وابتدأه بالنبوة، كان إذا خرج لحاجته أبْعَدَ حتى تُحسر[30] عنه البيوت، ويُفضي إلى شعاب[31] مكة وبطون أوديتها، فلا يمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجرٍ ولا شجرٍ إلا قال: السلام عليك يا رسول الله[32]، قال: فيلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله، وعن يمينه، وشماله، وخلفه، فلا يرى إلا الشجر والحجارة، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك يرى ويسمع ما شاء الله أن يمكث، ثم جاءه جبريل عليه السلام بما جاءه من كرامة الله، وهو بحراء في شهر رمضان[33].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|