لسان الصدق
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ.. ﴾ [النساء: 1].
أيها المؤمنون!
حب الثناء جبلةٌ؛ فُطر عليها البشر، وما زال السويُّ منهم باحثًا عن سبيلها، وحافظًا لها إن ظفر بها، ومدافعًا عنها إن مُسَّ جنابها بسوء.
يهوى الثناءَ مُبَرِّزٌ ومقصّر *** حبُّ الثناءِ طبيعة الإنسانِ
وذلك الثناء إنما يكون حقًا، وله اعتبارٌ ووزنٌ وأثرٌ في ميزان الشرع حين يُرفع بلسان الصدق الذي قام شاهدًا على صدق الفعال وحسن الحال، قال ابن القيم: "إن قلوب الصادقين لا تشهد بالزور ألبتة، فإذا أخفي عليك شأنك وحالك، فاسأل عنك قلوب الصادقين؛ فإنها تخبرك عن حالك ".
قال ابن حبان: " خير الثناء ما كان على أفواه الأخيار ". وذلك الذكر الحسن عاجل بشرى للمؤمن، قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه؟ قال: «تلك عاجل بشرى المؤمن» رواه مسلم. وهو من إيتاء الله عبدَه أجره في الدنيا، كما فسَّر ابن عباس رضي الله عنهما قولَه تعالى عن نبيه إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ﴾ [العنكبوت: 27].
والذكر الحسن تركةٌ مباركة، وحياةُ خيرٍ تبقى للمرء وإن مات، يُذْكَر بجميل مآثره، ويستدعي الدعاءَ لصاحبه، بل يمتد خيره لوارثه؛ إذ هو من خير ما ورّث له. قال حكيم: " أفضل ما يورِّث الآباءُ الأبناءَ: الثناء الحسن، والأدب النافع، والإخوان الصالحون ".
كلُّ الأمورِ تزول عنك وتنقضِي *** إلا الثناءَ فإنه لك باقي
والذِّكر بلسان الثناء الصادق من أبرز علامات الجزاء الأخروي المدَّخر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: « يوشك أن تعرفوا أهل الجنة، من أهل النار»، قالوا: بم ذاك، يا رسول الله؟ قال: « بالثناء الحسن، والثناء السيئ؛ أنتم شهداء الله بعضكم على بعض» رواه ابن ماجه وصححه البوصيري. ومن هنا بات طلبُ لسان الثناء الصادق بفعل العمل الصالح سنةً نبويةً سألها النبيون ربَّهم، وكانت من ربهم كرامةً لهم، كما سأل الخليل – عليه السلام – إذ يقول: ﴿ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ﴾ [الشعراء: 84]، قال مجاهد: " ما أراد إلا الثناء الحسن "؛ فكان له ذاك جزاءً معجلًا، كما كان لنوح وإلياس وذرية إبراهيم عليهم السلام، كما عقّب الله – سبحانه – ذِكْرهم إذ يقول: ﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ﴾ [الصافات: 78، 108، 129]، ويقول: ﴿ وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ﴾ [مريم: 50].
عباد الله!
إن لسان الصدق ثناءٌ باقٍ لا تعفيه الأيام، ولا تشوِّه حسنَه أذيةُ الإساءة والبهتان وإن كان لها صولة وجولة؛ إذ هو رفعة ربانية؛ ومن ذا يطيق خفض ما قد رفعه العلي؟! وذاك سر بقائه، بخلاف لسان الثناء الأرضي الكاذب وإن ملأ الدنيا؛ إذ هو من الباطل الزاهق الذي يضمحل سريعًا. سمع عامر بن عبد الله بن الزبير ابنًا له يتنقَّص عليَّ بنَ أبي طالب رضي الله عنه، فقال: " إياك والعودة إلى ذلك! فإن بني مروان شتموه ستين سنة، فلم يزده الله بذلك إلا رفعة، وإن الدين لم يبن شيئًا فهدمته الدنيا، وإن الدنيا لم تبن شيئًا إلا عاودت على ما بَنَتْ فهدمته ".
قال كعب الأحبار: « والله، ما استقر لعبد ثناءٌ في الأرض حتى يستقر له في أهل السماء ». وذاك الثناء السماوي أثر من محبة الله للعبد بما قام به من حق العبودية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض " رواه البخاري ومسلم. والعمل الصالح سبيلُ نيلِ تلك المحبة الربانية، ومن جلل تلك الصالحات الإخلاص لله؛ فقد سأل أبو ذر – رضي الله عنه – رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الرجل يعمل العمل لله، فيحبه الناس عليه، قال: « ذلك عاجل بشرى المؤمن » رواه ابن ماجه وصححه الألباني. ولخبيئة الإخلاص وعمل السر أثر بليغ في نشر لسان الثناء الصادق بين الملأ، قال عبدالله بن المبارك: رأيت مالكًا، فرأيته من الخاشعين؛ وإنما رفعه الله بسريرة بينه وبينه؛ وذلك أني كثيرًا ما كنت أسمعه يقول: " من أحب أن يُفتح له فرجة في قلبه، وينجو من غمرات الموت وأهوال يوم القيامة؛ فليكن في عمله في السر أكثر منه في العلانية ". والعناية بالقرآن الكريم من سبل الظفر بلسان الثناء الصادق، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ [الزخرف: 44]. وتحقيق مقام الإحسان مع الخالق والخلق سبب لنشر الثناء الصادق وخلوده، كما قال تعالى تعقيبًا لقوله: ﴿ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ﴾: ﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الصافات: 80، 131].
ومن أعظم صور الإحسان إلى الخلق الجالبِ لثناء الصدق وحسنِ السمعة السعيُ في قضاء حوائج الناس، قال ابن حبان: " أيسر ما يكون في قضاء الحوائج استحقاق الثناء ". ومن أعظم أسباب استحقاق الثناء كثرة الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد ذكر ابن القيم أن من فوائد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: " أنها سبب لإبقاء الله - سبحانه - الثناءَ الحسنَ للمصلي عليه بين أهل السماء والأرض؛ لأن المصلي طالبٌ من الله أن يثني على رسوله ويكرمه ويشرفه، والجزاء من جنس العمل؛ فلا بد أن يحصل للمصلي نوع من ذلك ".
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله...
أيها المؤمنون!
إن من بركات الثناء الصادق على العبد أنه يكسر العبدَ لربه؛ حين يسره ذلك الثناء، ولا يغرّه؛ فيستشعر عظيم منة الله عليه بتيسره الخيرَ عليه، وجعله القبولَ له بين الناس، مع استشعاره عظيمَ تقصيرِه في حق ربه؛ وذاك سبيل السلامة من فتنة الثناء العظيمة، قال الحسن البصري: « كم من مستدرج بالإحسان إليه؟! وكم من مفتون بالثناء عليه؟! وكم من مغرور بالستر عليه؟! ».
قال عمر بن عبد العزيز لخالد بن صفوان: عظني وأوجز، فقال خالد: يا أمير المؤمنين، إن أقوامًا غرّهم سترُ الله عز وجل، وفتنهم حسنُ الثناء؛ فلا يغلبنّ جهلُ غيرك بك علمَك بنفسك، أعاذنا الله وإياك أن نكون بالستر مغرورين، وبثناء الناس مسرورين، وعن ما افترض الله متخلفين مقصرين، وإلى الأهواء مائلين؛ فبكى عمر، ثم قال: أعاذنا الله وإياك من إيقاع الهوى. ومن رُزق لسانَ صدق في الثناء توارت عنه حظوظ نفسه؛ فكان أبعد الناس عن الثناء على نفسه، وإشهارها، وكان جزاء الله له بالثناء الصادق من جنس عمله الصادق. قال إبراهيم بن أدهم: " ما صدق اللهَ عبدٌ أحب الشهرة "، وقال أيوب السختياني: "والله، ما صدق اللهَ عبدٌ إلا سرّه أن لا يُشعر بمكانه ".
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|