قصة عبد الله بن حذافة السهمي مع ملك الفرس
قصة عبد الله بن حذافة السهمي مع ملك الفرس مشهورة، وذلك أنه في السنة السادسة من الهجرة حين عزم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبعَث بعض أصحابه بكُتب إلى ملوك الأعاجم يدعوهم إلى الإسلام.
ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- يقدر خطورة هذه المهمة، فهؤلاء الرسل سيذهبون إلى بلاد نائية لا عهد لهم بها من قبلُ، يجهلون لغاتهم ولا يعرفون شيئًا عن أخلاق ملوكهم، ثم إنهم سيدعون هؤلاء إلى ترك ما عليه آباؤهم، والدخول في دين الإسلام الذي هو ضد ما هم عليه من الإلحاد والكفر.
إنها رحلة خطيرة الذاهب إليها مفقود، والعائد منها مولود، لذلك جمع المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أصحابه وقام فيهم خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، وتشهَّد ثم قال: أما بعد، فإني أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك الأعاجم، فلا تختلفوا علي، كما اختلفت بنو إسرائيل على عيسى ابن مريم، فقال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: نحن يا رسول الله نؤدي عنك ما تريد، فابعثنا حيث شئت، انتدب -صلى الله عليه وسلم- ستةً من الصحابة؛ ليحملوا كتبه إلى ملوك العرب والعجم، وكان أحد هؤلاء الستة عبد الله بن حذافة السهمي، اختاره لحمل رسالته إلى كسرى ملك الفرس.
فجهَّز عبد الله راحلته وودَّع أهله وولده، ومضى إلى غايته، ترفعه النجاد وتَحُطه الوهادُ، حتى ديار فارس، فاستأذن بالدخول على ملكها، وأخطر أعوان الملك بالرسالة التي يحملها بأنها ذات اهتمام.
عند ذلك أمر كسرى بإيوانه فزُيِّن، ودعا عظماء فارس لحضور مجلسه، فحضروا، ثم أذن لعبد الله بن حذافة بالدخول، فدخل عبد الله بن حذافة على سيد فارس، مشتملًا شملته، مرتديًا عباءته الصفيقة، عليه بساطة الأعراب، لكنه عالي الهمة، مشدود القامة، تأجَّجت بين جوانحه عزة الإسلام، فلما رآه كسرى مقبلًا أشار إلى أحد رجاله بأن يأخذ منه الكتاب.
فقال: لا، إنما أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أدفعه لك يدًا بيد، لا أخالف أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال كسرى لرجاله: اتركوه يدنو مني، فدنا من كسرى، فناوله كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده.
ثم دعا كسرى كاتبًا عربيًّا من أهل الحيرة، وأمره أن يَفُضَّ الكتاب بين يديه، وأن يقرأ عليه، فإذا فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى»، ولَما سمع كسرى هذا المقدار من الرسالة، اشتعل غضبه في صدره، فاحمرَّ وجهه، وانتفخت أوداجه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بدأ بنفسه، فجذب الرسالة من يد كاتبه، وجعل يمزِّقها، دون أن يعلم ما فيها، ويقول: أيَكتُب لي بهذا وهو عبدي، ثم أمر بعبد الله بن حذافة أن يُخرج من مجلسه، فأُخرج من المجلس، وهو لا يدري ماذا يكون بعد ذلك، لكنه ما لبث أن قال: والله ما أبالي على أي حال أكون بعد أن أدَّيت كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وركب راحلته وانطلق.
ولَما سكت غضب كسرى، أمر أن يردُّوه إليه، فالتمسوه فلم يجدوه، فأرسلوا في أثره، وطلبوه في الطريق، فلم يجدوه، فلما قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخبره بما كان من أمر كسرى، وتمزيقه الكتاب، فما زاد عليه الصلاة والسلام على أن قال: «مزَّق الله ملكه».
أما كسرى، فكتب إلى باذان نائبه على اليمن، أن ابعث إلى هذا الرجل الذي ظهر بالحجاز رجلين جلدين من عندك، ومُرهما أن يأتيان به، وحَمَّلهما رسالةً له يأمُرهما بأدائها له، ويأمره فيها بأن ينصرف معهما إلى لقاء كسرى دون إبطاء.
وطلب إلى الرجلين أن يقِفا على خبر النبي -صلى الله عليه وسلم- ويستقصيا أمره، وأن يأتياه بما يقفان عليه من أمره من معلومات.
فخرج الرجلان حتى بلغا الطائف، فوجدا رجالًا تجارًا من قريش، فسألاهم عن محمد عليه السلام، فقالوا: هو في يثرب، ثم مضى التجار إلى مكة فرحين مستبشرين، وجعلوا يهنون قريشًا، ويقولون: قرُّوا عينًا، فإن كسرى تصدى لمحمد وكفاكم شرَّه، أما الرجلان فيمَّما وجهيهما شطر المدينة، حتى إذا وصلا إليهما، لقِيا النبي صلى الله عليه وسلم، ودفعا إليه رسالة باذان، وقالا له: إن ملك الملوك كسرى كتب إلى ملكنا باذان أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد أتيناك لتنطلق معنا، فإن أجبتنا كلمنا كسرى بما ينفعك، ويكف أذاه عنك، وإن أبيتَ فهو مَن قد علِمت سطوته، وبطشه، وقدرته على إهلاكك، وإهلاك قومك.
فتبسَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال لهما: «ارجعا إلى رحالكما اليوم، وأتِيا غدًا، فلما غَدَوَا على النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليوم التالي، أخبرهما بأن الله قتل كسرى حيث سلط عليه ابنه ((شيرويه)) في ليلة كذا من شهر كذا، فحدَّقا في وجهه، وبدت الدهشة على وجهيهما، وقالا: أتدري ما تقول: أنكتُب بذلك لباذان، قال: «نعم، وقولا له: إن ديني سيبلغ ما وصل إليه ملك كسرى، وإنك إن أسلمت، أعطيتك ما تحت يديك، وملَّكتك على قومك، وخرج الرجلان من عند الرسول صلوات الله وسلامه عليه وقدما على باذان وأخبراه الخبر، فقال: لئن كان ما قاله محمد حقًّا فهو نبي، وإن لم يكن كذلك فسنرى فيه رأيًا، فلم يلبث أن قدم على باذان كتاب شيرويه.
وفيه يقول: أما بعد، فقد قتلت كسرى ولم أقتله إلا انتقامًا لقومنا، فقد استحلَّ قتل أشرافهم وسبى نسائهم، وانتهب أموالهم، فإذا جاءك كتابي هذا فخُذ لي الطاعة ممن عندك، فلما قرأ باذان الكتاب ((كتاب شيرويه))، طرحه جانبًا وأعلن دخوله في الإسلام، وأسلم من كان معه من الفرس باليمن؛ انتهى.
اللهم انظِمنا في سلك الفائزين برضوانك، واجعلنا من المتقين الذين أعددتَ لهم فسيحَ جناتك برحمتك في دار أمانك، وعافنا يا مولانا في الدنيا والآخرة من جميع البلايا، وأجزِل لنا من مواهب فضلك وهباتك، ومتِّعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، مع الذين أنعمتَ عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصبحه أجمعين.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|