هل عذاب القبر دائم أم منقطع؟
قال ابن القيم رحمه الله: جوابها أنه نوعان، نوع دائم، وذكر الأدلة على ذلك؛ كقوله تعالى: ﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ﴾ [غافر: 46]، وفي بعض الأحاديث في ذكر عذاب القبر، وفيه: ((فهو يُفعَل به ذلك إلى يوم القيامة)).
والنوع الثاني: منقطع إلى مدة، قال: وهو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم، فيعذب بحسب جرمه، ثم يخفف عنه، كما يعذب في النار مدة ثم يزول عنه العذاب، وقد ينقطع عنه العذاب بدعاء، أو صدقة، أو استغفار، أو ثواب حج... إلخ.
• العذاب والنعيم في القبر يقع على الروح والجسد معًا:
وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة، وقد خالف في ذلك بعض طوائف المبتدعة؛ فالمعتزلة ينكرون النعيم والعذاب في البرزخ مطلقًا، ويرى بعض الفلاسفة أن العذاب والنعيم على الروح فقط.
• ونؤمن بأن هذه الروح التي بالبدن مخلوقة بلا شك، ولا يعلم حقيقتها إلا الله؛ قال تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾[الإسراء: 85]، لكن ورد لها صفات في القرآن والسنة؛ بأنها تصعد وتهبط، وتسمع وتبصر وتتكلم، وأنها تعاد إلى القبر عند السؤال، وأنها تُنعَّم وتُعذَّب، كل ذلك بكيفية لا يعلمها إلا الله.
• وقد اختلف العلماء في مستقر الأرواح بعد الموت على أقوال عدة، والتحقيق ما رجحه ابن القيم رحمه الله: أن لكل روح مستقرًّا يختلف عن غيرها:
• فأرواح الأنبياء في عليين في الملأ الأعلى؛ لما ثبت في حديث عائشة في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: سمعته يقول: ((في الرفيق الأعلى)).
• وأرواح الشهداء في حواصل طير خُضر تسرح في الجنة؛ ففي الحديث سأل مسروقٌ عبدَالله بن مسعود رضي الله عنه عن قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: 169]، فقال: إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: ((أرواحهم في أجواف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل)).
• وأرواح المؤمنين تكون طيرًا تعلُقُ شجر الجنة؛ فروى الإمام أحمد عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما نَسَمة المسلم طيرٌ يعلُقُ في شجر الجنة، حتى يرجعها الله إلى جسده يوم القيامة)).
والملاحظ أن الفرق بين أرواح الشهداء وأرواح المؤمنين: أن أرواح الشهداء تسرح بين شجر الجنة، ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، تسرح حيث شاءت، بينما أرواح المؤمنين طير يعلُقُ في ثمر الجنة، ولم يذكر فيها انتقالها حيث شاءت.
• ومن المؤمنين من يكون محبوسًا على باب الجنة، وهو من مات وعليه دَين، وقد ثبت في الحديث: ((رأيت صاحبكم محبوسًا على باب الجنة)).
• ومنهم مَن يكون محبوسًا في قبره؛ كصاحب الشَّملة التي غلَّها - أي: أخذها خيانة - قبل أن توزع الغنيمة، ثم استشهد، فقال الصحابة: هنيئًا له الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، إن الشملة التي غلَّها تشتعل عليه نارًا في قبره)).
• وأرواح العصاة تختلف حسب نوع المعصية، وقد تقدم شيء من ذلك في حديث سمرة بن جندب، وفيه أن أرواح الزناة والزواني تكون في تنور من نار، وآكلي الربا تسبح في نهر من دم وتلقم الحجارة، والكذاب يعذب بكلُّوب من حديد يدخل في شدقه حتى يبلغ قفاه، والذي أوتي القرآن فنام عن الصلاة يشدخ رأسه بصخرة.
قال ابن القيم رحمه الله: (فليس للأرواح سعيدِها وشقيِّها مستقر واحد، بل روح في أعلى عليين، وروح أرضية سفلية لا تصعد عن الأرض).
هذا ما يتعلق بالقيامة الصغرى، وهي الموت، وأما القيامة الكبرى، فذلك ما نتكلم عنه في مقالات قادمة بإذن الله.
أحمد (5/ 14)، والطبراني في الكبير (7/ 242)، وانظر صحيح الجامع (3462)، وأصله في البخاري (4047).
الروح لابن القيم (ص89).
الروح لابن القيم (ص107).
رواه البخاري (3670)، ومسلم (2444)،وفي رواية عند أحمد (6/ 274) (بل الرفيق الأعلى).
مسلم (1887)، والترمذي (3011)، وابن ماجه (2801).
رواه أحمد (3/ 455)، وابن ماجه (4271)، والنسائي (4/ 108)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (995).
أحمد (5/ 20).
البخاري (4234)، ومسلم (115).
(الروح) لابن القيم (116).
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|