ممارسة الأسباب والاعتماد على مسببها
لقد أقامنا الله عز وجلّ في هذا العالم وهو عالم مبني على الأسباب يعني الإنسان لا يشبع إلا إذا أكل ولا يرتوي إلا إذا شرب إلى آخره من الأسباب التي توصل إلى النتائج وهذا أمر لا بد منه
ولكن الناس حيال هذا الموضوع ثلاثة أقسام:
1. قسم منهم يتعاطى الأسباب معتمدًا على الأسباب مثلًأ يقول أنا نجحت لأني درست لا يقول لأن الله وفقني ولكنه نسي كم من إنسان غيره قد درس مثله لكن لم يوفّق في الاختبار لما أخذ ورقة الاختبار فهم السؤال خطأ فأجاب إجابة خاطئة فرسب مع أنه درس كثيرًا، إذن أهمل جانب التوفيق الإلهي مارس الأسباب واعتمد على الأسباب.
2. وفريق آخر بالعكس أهمل الأسباب وادّعى أنه متوكل على الله عز وجلّ وهذا خلاف سنة الله عز وجلّ في خلقه.
3. والفريق الثالث مارس الأسباب واعتمد على مسبب الأسباب جلّ جلاله وهذا هو الفريق المحمود الذي حمده الله عز وجلّ في القرآن الكريم.
بعض الناس مفرّط في الأسباب، لا يشتغل ويريد أن يكون غنيًا، لا يدرس ويريد أن ينجح، بالله عليكم كيف يكون هذا؟! وفي المقابل أناس يشتغلون فإذا وفقهم الله بدل أن ينسبوا الفضل إلى الله يقولون أنا الذي فعلت كما قال قارون (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص:87] ولم يقل هذا فضل الله عز وجلّ عليّ، فالأمر بين إفراط وتفريط
إن سيدنا يعقوب عليه السلام كان عنده إثنا عشر ولدًا يوسف عليه السلام وأخوه بنيامين، يوسف كما نعلم فعل به إخوته ما فعلوا وذهب إلى مصر وصار مسؤولًا كبيرًا في الدولة المصرية وبنيامين أيضًا بعد قصة معروفة بقي في مصر عند أخيه ثم أراد سيدنا يعقوب من أولاده أن يذهبوا فيبحثوا عن أخويهم فلما ودعهم إلى مصر وهم عشرة إخوة ذكور وصورتهم حسنة جمع الله لهم الصورة الحسنة وكونهم ذكورا وأبوهم نبي وجدهم نبي وأبو جدهم وهو إبراهيم عليه السلام نبي فقال لهم يعقوب يا بني لا تدخلوا من باب واحد لما تصلوا إلى مصر لا تدخلوا من باب واحد لما تدخلوا المدينة خاف عليهم أن يصابوا بالعين فقال (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) ثم نبههم فقال (وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) هو طلب منهم ممارسة الأسباب ثم نبههم بأنه لو كان في القدر الإلهي شيء سيحدث لا محالة إذن أخذ بالأسباب واعتمد على مسببها فقال تعالى (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ)
تقدير الآية: سلموا لم يصبهم سوء ثم قال الله (مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) هذا الدخول المتفرق الذي فعلوه ما كان يغني عنهم من الله شيء لو كان هناك في القدر شيء آخر لكنهم سلموا لأن ما أراده يعقوب وافق ما هو مقدّر عند الله عز وجلّ (مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا) الحاجة هي ممارسة الأسباب والاعتماد على مسببها وأن يعلّم أولاده هذا المنهج. ثم قال الله عز وجلّ مادحًا يعقوب (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) معنى أكثر الناس لا يعلمون يعني لا يقيمون هذا الميزان حق القيام إما بعضهم يمارس الأسباب معتمدًا عليها وإما بعضهم يهمل الأسباب مدّعيًا التوكل، كِلا الأمرين خطأ
لما كان سيدنا أيوب مريضًا مرة انزعج من زوجته من أمر وكان ضعيفا من شدة المرض فحلف يمينًا إن عافاه الله عز وجلّ أن يضربها مائة ضربة فلما عافاه الله عز وجلّ قال له الله (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ)[ص:44] لا تحنث بمعنى لا ترع بيمينك، الضغث هو من أنواع النبات له سيقان عديدة فيضرب ضربة واحدة خفيفة لطيفة كأنه ضرب مائة ضربة.
سيدنا موسى عليه السلام استسقاه قومه أرادوا أن يشربوا، عطشوا وليس هناك ماء فسأل الله عز وجلّ أن يسقيهم لكنه لم يفجّ{ لهم الماء هكذا ولم يخرجه مباشرة بل قال لموسى (اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ)[البقرة:60] فضرب سيدنا موسى بعصاه الحجر فخرج منها إثنا عشر عينًا لأن أسباط بني إسرائيل كانوا إثنا عشر لكل فرع منهم نبع من ينابيع هذه المياه. كذلك لما موسى عليه السلام وقف مع قومه أمام البحر وفرعون وراءهم وأراد أن يطبق عليهم ويقتلهم عن بكرة أبيهم فقال قوم موسى (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) قال موسى (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴿٦٢﴾ الشعراء) البحر من أمامه ومن خلفه فرعون وبينهما بنو إسرائيل وهم في حالة يكادون أن يُقتلوا وسيدنا موسى عليه السلام قال (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) فقال تعالى (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴿٦٣﴾ الشعراء) وكان يمكن مباشرة أن يفلق له البحر دون أن يقول له اضرب بعصاك البحر، لكنه ممارسة الأسباب.
السيدة مريم شاء الله عز وجلّ أن تحمل حملا طاهرا بسيدنا عيسى عليه السلام بالنفخة الإلهية التي نفخها جبريل عليه السلام كما قال الله تعالى على لسان جبريل (قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ﴿١٩﴾ مريم) فلما حملت به وهي في حالة متعبة وتكاد أن تضع ومع ذلك لما احتاجت إلى الطعام قال الله لها (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴿٢٥﴾) كل منا لو كان رجلًأ لا يستطيع أن يهز نخلة مهما أوتي من قوة فكيف بامرأة ضعيفة وهي السيدة مريم مع ذلك أمرها الله أن تمارس الأسباب (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴿٢٥﴾)
نسأل الله عز وجلّ أن يرزقنا القيام بهذا الميزان حق الميزان في حياتنا إنه تعالى سميع مجيب.
د.ايمن سويدان
اسلاميات
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|