مقدمة:
الحمد لله الذي فتح للعباد أبواب الخير بهدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم سيد الأولين والآخرين، أما بعد:
فإن الابتسامة مِفتاح القلوب، وصدقة مجانية، وعمل سهل، وغنيمة باردة يحوزها صاحبها بغير تعب ولا كلفة، وهي كلمة صامتة بدون حروف، يفهم الناس منها أنك تُحبهم وتُقدِّرهم، وهي دواء ليس له أعراض، وبسببها تُمتلَك القلوبُ، وتَزداد الألفة، وتُكسَر الحواجز، ويُقرَّب البعيد، ويَهدأ الغضبان، وتُبنى المحبَّة، وتُرسَّخ المؤاخاة، ويدخُل السرور والاطمئنان إلى النفوس، وترتفع الهِمَم.
وكان صلى الله عليه وسلم من أكثر الناس تبسمًا، يلقى الناس والابتسامة الصافية لا تفارق وجهه السمح؛ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((كان من أحسن الناس ثَغْرًا)) [1]؛ أي: أسنانًا أو فمًا.
وقال السهيلي: "وكان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرقًا بسَّامًا" [2].
ومما ينبغي علينا أن نتأسى بهدي النبي صلى الله عليه وسلم عملًا بقول الله تعالى: ﴿
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب:21].
تعريف التبسم:
قال العيني: "التبسم في اللغة مبادئ الضحك، والضحك انبساط الوجه التي تظهر الأسنان من السرور، فإن كان بصوت بحيث يسمع من بعد، فهو القهقهة وإلا فالضحك، وإن كان بلا صوت فهو التبسم" [3].
بين الضحك والتبسم:
قال ابن حجر: "يحمل ما ورد في صفته صلى الله عليه وسلم أن ضحكه كان تبسمًا على غالب أحواله، وقيل: كان لا يضحك إلا في أمر يتعلق بالآخرة، فإن كان في أمر الدنيا لم يزد على التبسم" [4].
وقد جاءت نصوص السنة متضافرة في الدلالة على هذا الخلق، ومن ذلك:
تبسم النبي صلى الله عليه وسلم لزوجاته:
عن عائشة رضي الله عنها ((... أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي كانت تساميني منهنَّ في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أر امرأة قط خيرًا في الدين من زينب، وأتقى لله وأصدق حديثًا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالًا لنفسها في العمل الذي تصدق به، وتقرب به إلى الله تعالى، ما عدا سَوْرة من حدة كانت فيها، تسرع منها الفيئة، قالت: فاستأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع عائشة في مِرْطها، على الحالة التي دخلت فاطمة عليها وهو بها، فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، قالت: ثم وقعت بي، فاستطالت علي، وأنا أرقب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرقب طرفه، هل يأذن لي فيها، قالت: فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر، قالت: فلما وقعت بها لم أَنْشَبْها حتى أَنحيتُ عليها، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وتبسم إنها ((ابنة أبي بكر))[5].
قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم إنها ابنة أبي بكر، معناه الإشارة إلى كمال فَهْمها وحُسن نظرها"[6].
وعن وقار النبي صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة رضي الله عنها
(ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مستجمعًا قط ضاحكًا، حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم))[7].
يغرس صلى الله عليه وسلم محبته في قلوب أصحابه رضي الله عنهم بالتبسم وطلاقة الوجه:
عن جرير قال: ((ما حجبني النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي))[8].
وعن عبدالله بن الحارث، قال: ((ما رأيت أحدًا أكثر تبسمًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم))[9].
قال ابن بطال: "وفيه أن لقاء الناس بالتبسم وطلاقة الوجه من أخلاق النبوة، وهو مناف للتكبر وجالب للمودة" [10].
وعن تبسُّمه وحسن عشرته صلى الله عليه وسلم لأصحابه ومجالسته لهم، قال سماك بن حرب: قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم كثيرًا، ((كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام وكانوا يتحدثون، فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون ويتبسم صلى الله عليه وسلم))[11].
قال النووي: "فيه استحباب الذكر بعد الصبح وملازمة مجلسها ما لم يكن عذرٌ، قال القاضي: هذه سنة كان السلف وأهل العلم يفعلونها ويقتصرون في ذلك الوقت على الذكر والدعاء حتى تطلع الشمس، وفيه جواز الحديث بأخبار الجاهلية وغيرها من الأمم، وجواز الضحك، والأفضل الاقتصار على التبسم، كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في عامة أوقاته" [12].
تبسم صلى الله عليه وسلم تبسم المغضب:
في حديث توبة كعب بن مالك رضي الله عنه قال كعب: "فجئته فلما سلمت عليه، تبسَّم تبسُّم المغضَب"[13].
قال ابن حجر: "التبسم قد يكون عن غضب؛ كما يكون عن تعجُّب، ولا يختص بالسرور" [14].
تبسم صلى الله عليه وسلم وصبر على من آذاه تأليفًا واستعطافًا له:
عن أنس بن مالك يقول: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا المسجد وعليه رداء نجراني غليظ، فقال له أعرابي من خلفه، وأخذ بجانب ردائه، فاجتبذه حتى أثَّرت الصَّنِفة في صَفْح عُنُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا محمد، أعطنا من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه، وتبسم صلى الله عليه وسلم، وقال: ((مُرُوا لَهُ))[15].
قال ابن حجر: "وفي الحديث بيان حِلمه صلى الله عليه وسلم، وصبره على الأذى في النفس والمال، والتجاوز على جفاء من يريد تألُّفه على الإسلام، وليتأسى به الولاة بعده في خلقه الجميل من الصفح والإغضاء، والدفع بالتي هي أحسن"[16].
وجملة القول:
أن البسمة سنه نبوية لها آثارها الطيبة، فلنحرص على إشاعتها مع الأهل، وعامة الناس؛ لأنها تغرس الألفة والمحبة، وتُكسب الأجر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.