العدل وعدم الاعتداء في الحروب النبوية
العدل من أهم الأسس الخلقية التي يقررها الإسلام في التعامل بين الناس جميعًا؛ مؤمنهم وكافرهم، صغيرهم وكبيرهم.
والعدل هو إعطاء كل ذي حق حقه، أو ما يعادل حقه ويساويه دون زيادة ولا نقصان، أو هو المساواة بين التصرف وبين ما يَقتضيه الحق، دون زيادة ولا نقصان[1].
وقد أمر الله بإقامة العدل والقسط في كثير من النصوص القرآنية؛ منها:
قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 135].
قال القرطبي: "قوامين بِناء مبالغة؛ أي: ليتكرر منهم القيام بالقسط - وهو العدل - في شهادتهم على أنفسهم، وشهادة المرء على نفسه: إقراره بالحقوق عليها.
ثم ذكر الوالدين؛ لوجوب برِّهما، وعظم قدرهما، ثم ثنى بالأقربين؛ إذ هم مظنة المودة والتعصب، فكان الأجنبي من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه"[2].
وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8].
قال الطاهر بن عاشور: "وقد تحصل من مجموع الآيتين[3] وجوب القيام بالعدل والشهادة به، ووجوب القيام لله والشهادة له"[4].
وفي مجموع الآيتين أيضًا معالجة للأسباب التي قد تؤدي بالإنسان إلى الجور والحيف والميل عن الحق:
فمما يَنزع المرء عن الحق، ويحدو به إلى الميل إلى أحد الطرفين، وترجيح إحدى الكفتين بالزيادة: محبتُه لهذا الطرف؛ لقرابة أو نسب، أو نوع علاقة، أو مصلحة بينهما؛ ولهذا جاء التنبيه على هذا في آية النساء: ﴿ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾.
ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأنعام: 152].
ومما ينزع المرء عن الحق، ويَحدو به إلى الميل عن أحد الطرفين، وترجيح كفة الآخر عليه، وانتقاص حقه وهضمه: البُغض والكراهية لهذا الطرف، وهو ما جاء التنبيه عليه في آية المائدة: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا ﴾ [المائدة: 8].
والشنآن هو شدة البُغض.
ومن النماذج العملية التي جاءت بها السيرة النبوية المطهَّرة على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم، والتي تدل على إقامة العدل مع وجود دواعي الميل عنه؛ بالزيادة في جهة المحبوب، أو بالسلب والنقص في جهة المبغض المكروه، إليك الموقف التالي:
بعد غزوة خيبر وانتصار المسلمين فيها، دفع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر إلى أهلها على نصف خَراجها، وعلى أن يكفوا المسلمين المؤونة حتى يبلغ التمر، ولهم الحطب وسواقط النخل.
فلما بلغت التمرة، بعث إليهم عبدَالله بن رواحة - وكان مسترضعًا فيهم - ففرحوا به وقالوا: مرحبًا بك وبمن جئت من عنده، كيف أنت وكيف صاحبك الذي تركت وراءك؟
فقال: أما أنا فصالح، وأما صاحبي فوالله لهو أحب إليَّ من نفسي التي بين جنبي، ولأنتم أبغض إليَّ من عددكم من القردة والخنازير.
قالوا: فكيف تعدل علينا؟
قال: لن يحملني حب صاحبي على أن أجور له عليكم، ولا يحملني بغضي إياكم ألا أعدل عليكم.
قالوا: بهذا قامت السموات والأرض.
فطاف في النخل ونظر، فقال: إن شئتم أن أكيل لكم كذا وكذا، ولنا الحطب وسواقط النخل، قال: ففرحوا بذلك وقَبِلوه، ثم كالوا التمرة فلم يجدوها نقصت شيئًا مما خرص ولا زادت[5].
فانظر كيف أقام عبدالله بن رواحة العدل، رغم أنه تتنازعه عاطفتان متضادتان، كلاهما تدعو في الطبع البشري العادي إلى الميل والحيف، فقد بلغت محبته للرسول صلى الله عليه وسلم أبعد مدى، وفي ذات الوقت بلغت عداوته وبغضه لليهود أبعد مدى، ولكنه أقام العدل والقسط، ولم تحمله محبته لطرف مع كراهيته للطرف الآخر أن يرجِّح كفة هؤلاء على أولئك.
ومن ذلك أيضًا قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].
وقوله - عز وجل -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58].
ومن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن - عز وجل - وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا))[6].
ونصوص الوحي مُتضافرة في الدلالة على أن العدل من أهم الأسس الأخلاقية الحاكمة للعلاقات بين الناس والمنظمة لمعاملاتهم؛ حيث يأمر الله المسلمين بأن يكون العدل سمة من سماتهم، وأن يكون تحقيق العدل المطلق بين الناس جزءًا من وظائفهم الشرعية المقدسة.
وكما يأمر الإسلام بالعدل، فهو ينهى عن ضده، وهو الظلم والتعدي على الآخرين، مهما كانت دوافع هذا الظلم.
قال الله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190].
قال العلامة السعدي: "والنهي عن الاعتداء يَشمل أنواع الاعتداء كلها؛ مِن قتل مَن لا يُقاتل مِن النساء والمجانين والأطفال والرهبان ونحوهم، والتمثيل بالقتلى، وقتل الحيوانات، وقطع الأشجار ونحوها، لغير مصلحة تعود للمسلمين، ومن الاعتداء مقاتلةُ مَن تُقبَل منهم الجزية إذا بذلوها؛ فإن ذلك لا يجوز"[7].
وقال الله - عز وجل -: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2]؛ "أي: لا يكسبكم بغض قوم أن تعتدوا الحق إلى الباطل والعدل إلى الظلم".
قال الطبري: "أي: لا يَحملكم بغض قوم أيها الناس من أجل أنْ صدُّوكم يوم الحديبية عن المسجد الحرام أن تعتدوا عليهم، فنهى الله المؤمنين عن الاعتداء على الصادِّين من أجل صدهم عن المسجد الحرام.
وأما قوله: ﴿ وَلَا تَعْتَدُوا ﴾، فإنه يعني: أن تجاوزوا الحد الذي حدَّه الله لكم.
فتأويل الآية إذًا: ولا يَحملكم بغْض قوم لأن صدوكم عن المسجد الحرام - أيها المؤمنون - أن تعتدوا حُكمَ الله فيهم فتجاوِزُوه إلى ما نهاكم عنه، ولكن الزموا طاعة الله فيما أحببتم وكرهتم"[8].
وقال ابن زيد: "لما صد المسلمون عن البيت عام الحديبية، مر بهم ناس من المشركين يريدون العمرة، فقال المسلمون: نصدُّهم كما صدنا أصحابهم، فنزلت هذه الآية؛ أي: لا تعتدوا على هؤلاء ولا تصدوهم"[9]، فنهى الله - عز وجل - المؤمنين عن الاعتداء على الذين صدوهم عن المسجد الحرام ومن شايعهم، وأمرهم أن يتغلَّبوا على مشاعر البغض والكراهية المستحقة لهؤلاء المجرمين الكفار؛ حتى لا تصرفهم عن إقامة العدل، وتدفعهم للاعتداء ومجاوزة حدود الله القائمة على القسط والحق.
ومن المواقف التي تدلُّ على هذا المبدأ العظيم، وتلك القاعدة الأخلاقية الكريمة: ما روي عن أبيِّ بن كعب حيث قال: "لما كان يوم أُحُد قُتل من الأنصار أربعة وستون رجلاً، ومن المهاجرين ستة، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن كان لنا يوم مثل هذا من المشركين لَنُرْبِيَنَّ عليهم، فلما كان يوم الفتح قال رجل لا يُعرَف: لا قريش بعد اليوم، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَمِنَ الأسود والأبيض إلا فلانًا وفلانًا، ناسًا سماهم.
فأنزل الله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نَصبر ولا نعاقب))[10].
ومن فروع هذه القاعدة: عدم قتال من لم يُقاتِل، وعدم الاعتداء عليه، وقد آثرت أن أفرد هذه القاعدة في مبحث مستقل رغم أنها تابعة لهذه القاعدة؛ لأهميتها وإظهار ما اشتملت عليه من أحكام.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|