12-31-2022, 07:27 PM
|
|
SMS ~
[
+
]
|
|
|
|
لطائف من غزوة الطائف (3)
حول مسألة غنائم يوم حنين
عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الأنصارُ شِعارٌ والنَّاسُ دِثارٌ ولَو أنَّ النَّاسَ استقبَلوا واديًا أو شِعبًا واستقبلَتِ الأنصارُ واديًا لسلَكْتُ واديَ الأنصارِ ولَولا الهجرةُ لَكُنتُ امرأً منَ الأنصارِ[1].
وعن عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لَوْلَا الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأنْصَارِ، ولو سَلَكَ النَّاسُ وادِيًا أوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وادِيَ الأنْصَارِ وشِعْبَهَا. تابَعَه أبو التَّيَّاحِ عن أنسٍ عنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الشِّعبِ[2].
وهذان حديثان صحيحان رواهما كل من الإمام ابن ماجه رحمه الله تعالى، وكذا الإمام البخاري رحمه الله تعالى، وهما يبين فضل المهاجرين، وحين تركوا ديارهم وأموالهم، لله تعالى، ويوم أن هاجروا من بطش قريش في مكة المكرمة، إلى الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وحيث كان مهاجره صلى الله عليه وسلم بالمدينة النبوية الكريمة أيضا، وهو من قوله تعالى:﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾[الحشر: 8].
ولكن الحديثين أيضًا يبينان فضل الأنصار، وحين جعل النبي صلى الله عليه وسلم نفسه أنصاريًّا، وإذا لم يكن مهاجريًّا، وكما قال الله تعالى أيضًا: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].
ولكن الحديثين جاءا معالجين لوضع طرأ على الجماعة المسلمة، وإذ كاد أن يعصف بمجتمع ناشئ جديد، كان نواة أنس الخير في ربوع الأرض جميعها، لا الجزيرة العربية وحدها، ولهذا انتصب له نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إصلاحًا، وترتيبًا، وإعادة ثقة وتأهيل جديدين أيضًا.
والمهارة ها هنا ألا يستوحش القائد من ظهور بوادر فتنة، ويشغل باله كثيرًا حولها، وبقدر ما يكون همه منصبًّا على كيفية مواجهتها، بحكمة، وتدبير، وفطنة، وملاءة تفكير؛ وكيما لا تعاود الظهور من بعد؛ ولهذا السبب رأيناه صلى الله عليه وسلم يعالج الفتنة، ومن مهدها؛ وكيما لا يتطاير شررها، فينال كل قاص، ويهرش كل دان.
ولكن الحديثين أيضًا كانا مناسبة يوم توزيع غنائم حنين، وحين أعطى نبينا صلى الله عليه وسلم المهاجرين وقريشًا ودون الأنصار إلا اثنين.
ويومها ألوى الناس، وقالوا قولهم، وانتشر شأنهم، وذاع اعتراضهم، حتى أعلم سعد بن عبادة النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وليبين النبي بحكمة، وليظهر من فطنة، وكلامًا موجزًا، إسراعًا في وأد الفتنة أنه:
أولًا: كان إعطاء القرشيين تألفًا:
١- لمن أسلم وقد كان حديث عهد بإسلام، ومثل هذا الصنف يراعى، ولما يدخل الإيمان في قلوبهم.
٢- لمن لم يسلم كصفوان بن أمية، وتآلفًا لعله أن يسلم، وقد كان، ولَما يدخل الإيمان في قلبه، ومن بعد عداء مرير، وهو الذي قال: لقد أعطاني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ حُنينٍ، وإنَّه لَمِن أبغضِ النَّاسِ إليَّ، فما زال يُعطيني حتَّى إنَّه لَأحبُّ الخَلقِ إليَّ[3].
وأقول أيضًا: إن هذا هو الموافق للتنزيل الحكيم، وحين قال الله تعالى ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة:60].
وهذا هو بعد نظر القائد، وحصافته، وفطنته، وحين يكون على علم بمن هم تحت قيادته، أو من هم على مرمى بصره، فيعاينهم جميعا، وليعالجهم جميعا أيضًا.
ثانيًا: إعطاء المهاجرين، وعلى وجه أخص؛ ولأنهم تركوا أموالهم كلها، وديارهم جميعها، وها هم قد حطوا رحالهم، ومن بين إخوانهم الأنصار، وحين لم يقصروا في ضيافتهم، ومن إصلاحهم أمرهم إيثارًا، حكى عنه القرآن الحكيم، وكما في آية الحشر التاسعة آنفًا، وإذ ولو لم يكن إيثار على غير عادة الإيثار، ما نزل فيه قرآن، وبهذه الحفاوة!
وكان من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بعض اعتبارهم؛ ولإعادة بعض توازنهم المادي، وبعد أن تركوا كل ما عندهم، وحين هاجروا لله تعالى ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
ولأنه ولئن كان الأنصار قد قاموا بواجب نصرة إخوانهم المهاجرين، وعلى أفضل ما كان من إيثار، حكاه القرآن المجيد، وإلا أنه تتبقى في النفس بقية، وأنهم مهاجرون، وهذا وصف مع جلالته، وإلا أنه يشعر من خلاله أهله بعضًا من عزلة، وبقية من وحشة، ومن شأن ذلك كان تصرفه صلى الله عليه وسلم، وليعلي القيمة، وليرفع الشأن.
ثالثًا: إعطاء بعض الأنصار، ولو كانوا قلة، وإلا أنه اختيار، كان لفقرهم وعوزهم وحاجاتهم.
وهذا شأن القائد، وكما أنف تكون عيناه ساهرتين على من حوله، متحسسًا أمورهم، ومعالجًا شؤونهم.
رابعًا: إن النظر للمصلحة العامة للدولة أقوى اعتبارًا من مصالح الأفراد فيها، وحين كان يمكن، ومن خلال النظر والتتبع لمسيرة عداء طويل، من أولاء الذين منحهم النبي صلى الله عليه وسلم، وإما أن يطلوا برأسهم الكفر ثانية، وهذا الذي رأيناه يوم نصر هوازن الأولى على المؤمنين، وحين أطل بعضهم برأس حربته، ونسي أنه قد أسلم، وهذا ما عالجناه يومها في حينه، وإذ كان هذا النبي صلى الله عليه وسلم قائدًا فذًّا، يدرك الأمور وعواقبها، ويسبر الأغوار ونتائجها.
ومن كل ما أنف، أعلَم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الناس بفعله، وحين تنادى سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه، وحين كان في قلبه من مثل ما كان في قلوب كثير منهم! وليسمعوا جميعًا، لا أن يخبروا، ولرب مبلغ كان أوعى من سامع.
وكما قلت: فإن هذا تفرد نبوي كريم، وحين لم ينفض اجتماع الناس، وإلا بعد أن رأوا من تصرف نبيهم صلى الله عليه وسلم خيرا، وحين قال الأنصار أنفسهم رضينا.
وهذا هو عمل وزارة الإعلام في عهده صلى الله عليه وسلم، ولتعمل عملها في وأد الفتن، ولتحسن قيامها بواجبها، في رص الصفوف، ومحافظة على العقد الاجتماعي، ومن أن يناله انفراط، أو من شبهه، وإذ لا يستصغرن شرر، فإن عظيم النار من مستصغر الشرر.
خامسًا: خلق حميد لنبي كريم: وإلا أن ما أنف ليس يصرفنا عن الإشارة، وغير مرة، وإلى أن تقر في الأذهان، وإلى أن تصير سننًا وهديًا، ونظامًا في القلوب والأفئدة والأبدان، وكمثل مما جاء به هذا النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
وذلكم هو خلقه العظيم، وعلى حد وصف القرآن المجيد له، وحين قال الله تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم:4].
وذلك لأن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم واجه مجتمعًا ناشئًا، وسمع منه ما ليس يسر، بل يغضب، ولكننا رأيناه صلى الله عليه وسلم، وهو إذ يهدهد، ويعالج، ويوجه، وينصح، ويرشد.
ولنا أن نتصور قائدًا، وإذ يجذبه قومه مرة ذات اليمين، وأخرى ذات الشمال، ولسبب لعاعة الدنيا، ومهما كان مبلغها، وإلا أن تظل في عقد الحنفاء لعاعة!
وذلك أيضًا، وحين روى أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه فقال: كُنْتُ عِنْدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو نَازِلٌ بالجِعْرَانَةِ بيْنَ مَكَّةَ والمَدِينَةِ، ومعهُ بلَالٌ، فأتَى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أعْرَابِيٌّ فَقالَ: ألَا تُنْجِزُ لي ما وعَدْتَنِي؟ فَقالَ له: أبْشِرْ، فَقالَ: قدْ أكْثَرْتَ عَلَيَّ مِن «أبْشِرْ»، فأقْبَلَ علَى أبِي مُوسَى وبِلَالٍ كَهَيْئَةِ الغَضْبَانِ، فَقالَ: رَدَّ البُشْرَى، فَاقْبَلَا أنْتُما، قالَا: قَبِلْنَا، ثُمَّ دَعَا بقَدَحٍ فيه مَاءٌ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ ووَجْهَهُ فيه ومَجَّ فِيهِ، ثُمَّ قالَ: اشْرَبَا منه، وأَفْرِغَا علَى وُجُوهِكُما ونُحُورِكُما وأَبْشِرَا. فأخَذَا القَدَحَ فَفَعَلَا، فَنَادَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مِن ورَاءِ السِّتْرِ: أنْ أفْضِلَا لِأُمِّكُمَا، فأفْضَلَا لَهَا منه طَائِفَةً[4].
وهذا آخر، وإذ يواجه نبينا صلى الله عليه وسلم، بغلظة من القول، وإذ لا تناسب لا من قريب ولا من بعيد، مقام رجل كان أمين ربه تعالى، وخليفته في الأرض، يأمر بأمره، وينهى بنهيه، وألا يعبد الله تعالى إلا بشرعه، وإذ تراك تراه في مثل موقف لا وصف له! وحين قال هذا أحدهم: والله إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: "وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟".
"أَيهَا الناسُ، رُدُّوا عَلَي رِدَائِي، فَوَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ لَكُمْ عِنْدِي عَدَدُ شَجَرِ تِهَامَةَ نَعَمًا لَقَسَّمْتُهُ عَلَيْكُمْ، ثُم لاَ تَجِدُونِي بَخِيلًا، وَلاَ جَبَانًا، وَلاَ كَذابًا".
ودلك على صحة مذهبنا هذا ما رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى عن عبدالله بن زيد بن عاصم، قال: لَمَّا أفَاءَ اللَّهُ علَى رَسولِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ حُنَيْنٍ، قَسَمَ في النَّاسِ في المُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، ولَمْ يُعْطِ الأنْصَارَ شيئًا، فَكَأنَّهُمْ وجَدُوا إذْ لَمْ يُصِبْهُمْ ما أصَابَ النَّاسَ، فَخَطَبَهُمْ فَقالَ: يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ، ألَمْ أجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بي؟ وكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فألَّفَكُمُ اللَّهُ بي؟ وعَالَةً فأغْنَاكُمُ اللَّهُ بي؟ كُلَّما قالَ شيئًا قالوا: اللَّهُ ورَسولُهُ أمَنُّ، قالَ: ما يَمْنَعُكُمْ أنْ تُجِيبُوا رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ قالَ: كُلَّما قالَ شيئًا، قالوا: اللَّهُ ورَسولُهُ أمَنُّ، قالَ: لو شِئْتُمْ قُلتُمْ: جِئْتَنَا كَذَا وكَذَا، أتَرْضَوْنَ أنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالشَّاةِ والبَعِيرِ، وتَذْهَبُونَ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى رِحَالِكُمْ؟ لَوْلَا الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأنْصَارِ، ولو سَلَكَ النَّاسُ وادِيًا وشِعْبًا، لَسَلَكْتُ وادِيَ الأنْصَارِ وشِعْبَهَا، الأنْصَارُ شِعَارٌ، والنَّاسُ دِثَارٌ، إنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أُثْرَةً، فَاصْبِرُوا حتَّى تَلْقَوْنِي علَى الحَوْضِ[5].
* * *
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله
في الناس كلهم بمثل محمد
وهذا قول مالك بن عوف النصري، صاحب يوم حنين، وحين اتهم دريد بن الصمة، وبأنه قد خرف، ولما قد كبر سنه! وحين هدد، وأزبد، وأرعد، يوم حنين، وإن لم يطعه قومه، لوضع الرمح في صدره، ليخرج من ظهره!
وهكذا يبدل الله تعالى قلوب قوم مشركين، وليأتوا بذات أنفسهم إلى الحق، برهانًا على أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء سبحانه، ودليلًا على أن هذا الدين منتصر بإذن الله تعالى، ولأنه دين الحق والهدى، وما كان الله تعالى ربنا الرحمن الرحيم إلا أنه يريد بعباده اليسر كله، لا بعضه، ولا جزأه، بل جميعه؛ ولأنه تعالى قال: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾[البقرة:185]، وتلكم من ألف باء الرحمة، وهذه أولى سطور الرأفة.
وقلت: إن مجيء مالك بن عوف النصري، وإلى الأمام من سيدنا ومولانا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لآية وإعجاز، وعلى أن هذا الدين ومن بعد انتصاره عليه ثلاث جولات متتاليات، ثم يأتي من بعدها مسلمًا مختارًا، وهذا برهان آخر على أن هذا الدين ذو نفس طويل، وفي معاملة الناس أولًا، وبرهان آخر على أن عدم قتل مالك هذا يوم حنين، أو يوم أوطاس، أو يوم الطائف، كان لغاية حميدة، وإذ ألفيناها آية رشيدة، وحين يأتي زعيم القوم مسلمًا، ولتكون آية، وأن يأتي من بعده قومه، ولما يتمالكهم ذهولهم، وإذ كان يوم سجال دار بين مالك بن عوف النصري ودريد بن الصمة! وليروا بأعينهم، لا نقلًا خبرًا عن أحد، فيكون مشوشًا، أو أن يقال: فهم التصريح عن غير سياقه!
هذا، وليست تفوتنا هذه إشادة بتلكم عبقرية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وحين صدر منه تصريح، ولمصدر مسؤول، وإنه وإذا جاءه مالك بن عوف مسلمًا ليعطينه مائة من الإبل، وليردن عليه أهله وماله!
وهذا برهان ضاف على أن هذا الدين له غاية واحدة، وهي إسلام الناس لرب العالمين، إلهًا واحدًا، لا إله إلا هو إليه المصير، والمرجع والمآب، وحين يكون مصدر ائتمارهم ونهيهم هو الله تعالى رب العالمين، ولأنه تعالى قال: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]. ولأنه تعالى قال أيضًا: ﴿ صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾ [البقرة:138].
وهذا عنوان أهمية المال في هذا الدين، وليتألف به قلوب قوم آخرين، كانوا يومًا أعداءً ألدَّاءَ، ومن ثم يمكن تحويل العداء إلى ولاء، وتأليفًا، وكيما يعودوا إلى حظيرة البر والتقوى والصلاح والفلاح والهدى والنور، وليسلموا ومن بعد كفرهم، وليؤمنوا ومن بعد شركهم أيضًا.
ودلك على صحة مذهبنا هذا ما قاله الإمام ابن إسحاق رحمه الله تعالى: وقال رسول الله ﷺ لوفد هوازن وسألهم عن مالك بن عوف ما فعل؟ فقالوا: هو بالطائف مع ثقيف. فقال: «أخبروه أنه إن أتاني مسلمًا رددت إليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل»، فلما بلغ ذلك مالكًا انسل من ثقيف حتى أتى رسول الله ﷺ وهو بالجعرانة – أو بمكة – فأسلم وحسن إسلامه، فرد عليه أهله وماله، ولما أعطاه مائة فقال مالك بن عوف رضي الله عنه:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله
في الناس كلهم بمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى
ومتى تشأ يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة عردت أنيابها
بالسمهري وضرب كل مهند
فكأنه ليث على أشباله
وسط الهباءة خادر في مرصد
قال: واستعمله رسول الله ﷺ على من أسلم من قومه، وتلك القبائل ثمالة، وسلمة، وفهم، فكان يقاتل بهم ثقيفًا لا يخرج لهم سرج إلا أغار عليه حتى ضيق عليهم[6].
* * * فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله ﷺ وهذا قول صحابي يدعى أبا سعيد، وهو مبين عن أعلام نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وحين أعلم أن أبا الخويصرة سيخرج من صلبه قوم يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، وأنهم وسوف يكونون في معزل عن جهاد، وأنهم وقد تزايلوا العطاء، ومنحًا في سبيل الله تعالى مولاهم الحق المبين سبحانه.
ولكن سبب مقتهم هكذا، ولكن موجب نعتهم كذلكم، ولما تطاول قائدهم أبوهم ذو الخويصرة التميمي، وعلى قسمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم غنائم حنين، وحين اتهمه زورا بعدم العدل في العطية، ولما رماه بهتانا بالميل في القسمة!!!
وهذا تجرؤ معيب، وذلكم تنقُّص في غير محله، وهذا سوء أدب أمام القائد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وحين قد ائتمنه مولاه تعالى، وعلى دينه كله، وليظهره على الدين كله، ومن ثم فما بقيت قلة من مال، ولو كثرت، يمكن من خلالها أن يتهم هذا النبي صلى الله عليه وسلم.
ولهذا السبب، فقد كان من علامة نبوته صلى الله عليه وسلم، أن يحدث الذي حدث، وأن يخرج من صلب هذا الرجل من حاد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ولكن هذا ليس يصرفنا عن أمور منها:
الأمر الأول: هو ذلك الخلق النبوي المحمدي الرشيد، وحين لم يجهل على هذا ذي الخويصرة، ولما جهل عليه، وبخلق مشوب بسوء الأدب، وذلك الفحش، في مواجهة أمين الله تعالى في أرضه، وهو ذلكم النبي الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وبالتالي وحين يطعن في رأس الهرم، وأي هرم أمامنا، ونحن أمام قمة عالية، بل فوق القمم السامية، وهو ذلكم النبي الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وحين قد وصفه مولاه بأوصاف عزت، ولما قد نعته مولاه بنعوت ندت، وهو ذلكم الرؤوف الرحيم، وهو ذلكم الرحمة المهداة، والقدوة المسداة، والمرحمة دأبه، والملحمة نظامه، والصفح خلقه، والعفو دينه، والسمت الحسن هديه، وقد تبين هذا، ومن رده على هذا الجلف، ذي الخويصرة، وحين قال له: ويلك ومن يعدل إن لم أعدل؟!
وإن هذا ليس يصرفنا أيضًا عن بيان وجوب مخاطبة القائد، بما هو أهله، ومن تقدير، ومن تعظيم، ليس يخرجه عن نطاق عبوديته، ولا يدخله في معامع الأخذ والرد، وجعله مادة على الألسنة، ومن حشف، وسوء كيلة!
وإلا أن هذا ليس يصرفنا أيضًا عن وجوب الرفق، ومع متانة هذا الدين، وحين أخرج البزار عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، فإن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى"[7].
والوسطية دين، والاعتدال منهج، وسمو الأخلاق رفعة، وتقدير القائد منقبة.
الأمر الثاني: هو ذلكم الجمع من صفات سفلية، كانت وصمًا لأولاء ذرية نابتة من صلب هذا الرجل، وذلك المتعدي على مقام أمين الله تعالى في أرضه، وهو ذلكم النبي الذي أرسله ربه تعالى رحمة للعالمين، وحين قدم إليهم العدل، وعلى مائدة طيبة شهية، ولما تضمنته من صنوف الحق، والعدل، والنصفة، والقسطاس المستقيم، دينا قيما، يهدي إلى الحق، وإلى طريق مستقيم، وحين لم يجد أكثم بن صيفي، وإلا أن يقول فيه إلا قول الحق، الذي فيه يمترون، ورغم كفره، ولأن الحق ذو قوة، من طبيعته، وتركيبه، ولما يجد المنصفون غير الإنصاف، وإذ وما بال أبو الخويصرة هكذا يخرج عما دخل فيه أكثم؟!
وأخرج أبو نعيم فقَالَ: بَلَغَ أَكْثَمَ بْنَ صَيْفِيٍّ مَخْرَجُ النَّبِيِّ ﷺ، فَأَرَادَ أَنْ يَأْتِيَهُ فَأَبَى قَوْمُهُ أَنْ يَدَعُوهُ وَقَالُوا: أَنْتَ كَبِيرُنَا، لَمْ تَكُنْ لِتَخِفَّ إِلَيْهِ! قَالَ: فَلْيَأْتِهِ مَنْ يُبَلِّغُهُ عَنِّي وَيُبَلِّغُنِي عَنْهُ. فَانْتَدَبَ رَجُلَانِ فَأَتَيَا النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَا نَحْنُ رُسُلُ أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ، وَهُوَ يَسْأَلُكَ: مَنْ أَنْتَ؟ وَمَا أَنْتَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "أَمَا مَنْ أَنَا فَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَمَّا مَا أَنَا فَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ". قَالَ: ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾، قَالُوا: ارْدُدْ عَلَيْنَا هَذَا الْقَوْلَ فَرَدَّدَهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى حَفِظُوهُ. فَأَتَيَا أَكْثَمَ فَقَالَا أَبَى أَنْ يَرْفَعَ نَسَبَهُ، فَسَأَلْنَا عَنْ نَسَبِهِ، فَوَجَدْنَاهُ زَاكِيَ النَّسَبِ، وَسَطًا فِي مُضَرَ، وَقَدْ رَمَى إِلَيْنَا بِكَلِمَاتٍ قَدْ سَمِعْنَاهَا، فَلَمَّا سَمِعَهُنَّ أَكْثَمُ قَالَ: إِنِّي قَدْ أَرَاهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَيَنْهَى عَنْ مَلَائِمِهَا، فَكُونُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ رُؤوسًا، وَلَا تَكُونُوا فيه أذنابًا[8].
الأمر الثالث: وهو ما تضمنه حديث الإمام البخاري رحمه الله تعالى من ذكر لأوصاف سلبية لهذا أبي الخويصرة، ومن نحا نحوه، وهذه الصفات هي:
1- يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وإذ وكأنما يخرجون منه وكما خروج السهم، إذا نفذ الصيد من جهة أخرى، ولم يتعلق به شيء منه، والرمية: هي الصيد المرمي.
2- يخرجون على حين فرقة من الناس: أي وقت افتراق يقع بين المسلمين.
3- يُحْسِنُونَ الْقِيلَ: يعني القول.
4- علامتهم التحليق، وهو استئصال الشعر والمبالغة في الحلق.
5- لَا يَرْجِعُونَ حَتَّى يَرْتَدَّ عَلَى فُوقِهِ: أي يرجع السهم على فوقه، أي: موضع الوتر من السهم، وهذا تعليق بالمحال، فإن ارتداد السهم على الفوق محال، فرجوعهم إلى الدين أيضًا محال.
6- يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مع صَلَاتِهِمْ، وصِيَامَهُ مع صِيَامِهِمْ.
7- يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ. أي: عظامهم التي بين نُقَرِ نحورهم وعواتقهم. وهذا كناية عن أن قِراءتهم لا يرفعها اللهُ تعالى، ولا يَقبلُها؛ لعِلمِه باعْتِقادِهم، أو أنَّهم لا يَعمَلونَ بها، فلا يُثابونَ عليها.
8- يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ فَمَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ، كذلك هؤلاء لم يتَعَلَّقوا بشَيءٍ مِن الإسْلامِ.
9- التَّسْبِيدُ: وهو تَرْكُ غَسْلِ الشَّعرِ ودَهْنِهِ.
ودلك على صحة مذهبنا هذا ما رواه الإمام البخاري رحمه لالله تعالى عن أبي سعيد الخدري: بيْنَما نَحْنُ عِنْدَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو يَقْسِمُ قَسْمًا، أَتَاهُ ذُو الخُوَيْصِرَةِ -وهو رَجُلٌ مِن بَنِي تَمِيمٍ- فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، اعْدِلْ، فَقالَ: ويْلَكَ! ومَن يَعْدِلُ إذَا لَمْ أَعْدِلْ؟! قدْ خِبْتَ وخَسِرْتَ إنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ. فَقالَ عُمَرُ: يا رَسولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لي فيه فأضْرِبَ عُنُقَهُ؟ فَقالَ: دَعْهُ، فإنَّ له أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مع صَلَاتِهِمْ، وصِيَامَهُ مع صِيَامِهِمْ، يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ إلى نَصْلِهِ فلا يُوجَدُ فيه شَيءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إلى رِصَافِهِ فَما يُوجَدُ فيه شَيءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إلى نَضِيِّهِ -وهو قِدْحُهُ- فلا يُوجَدُ فيه شَيءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إلى قُذَذِهِ فلا يُوجَدُ فيه شَيءٌ، قدْ سَبَقَ الفَرْثَ والدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ، إحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ المَرْأَةِ، أَوْ مِثْلُ البَضْعَةِ تَدَرْدَرُ، ويَخْرُجُونَ علَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ. قالَ أَبُو سَعِيدٍ: فأشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هذا الحَدِيثَ مِن رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأَشْهَدُ أنَّ عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ وأَنَا معهُ، فأمَرَ بذلكَ الرَّجُلِ، فَالْتُمِسَ فَأُتِيَ به، حتَّى نَظَرْتُ إلَيْهِ علَى نَعْتِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الذي نَعَتَهُ[9].
* * *
ما أُحِبُّ أنَّ لي بكَلِمَةِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حُمْرَ النَّعَمِ. وهذا قول عمرو بن تغلب، حين قد أنس من إشادة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم به، وحين كان قد تمايز بغنى نفسه، وسمو روحه بعيدًا بعيدًا، عن هكذا دنيا، وإذ كانت لعاعة، وإذ ها هم الناس يتنافسوها، وخوفٌ أن تهلكهم كما وقد أهلكت أمما من قبلهم.
فعن عمرو بن تغلب: أَتَى النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَالٌ فأعْطَى قَوْمًا ومَنَعَ آخَرِينَ، فَبَلَغَهُ أنَّهُمْ عَتَبُوا، فَقالَ: إنِّي أُعْطِي الرَّجُلَ وأَدَعُ الرَّجُلَ، والذي أدَعُ أحَبُّ إلَيَّ مِنَ الذي أُعْطِي، أُعْطِي أقْوَامًا لِما في قُلُوبِهِمْ مِنَ الجَزَعِ والهَلَعِ، وأَكِلُ أقْوَامًا إلى ما جَعَلَ اللَّهُ في قُلُوبِهِمْ مِنَ الغِنَى والخَيْرِ منهمْ عَمْرُو بنُ تَغْلِبَ، فَقالَ عَمْرٌو: ما أُحِبُّ أنَّ لي بكَلِمَةِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حُمْرَ النَّعَمِ[10].
وهذا حديث يبين منه السلطة التقديرية للقائد، وحين يمنح، أو حين يمنع.
وذلك لأن المنح والمنع، ولئن كانت تحسمهما قوانين الدولة المسلمة، وليس تخضع لسلطان أحد من البشر، حفظًا للحقوق، وأداء للواجبات، ودرءًا للشبهات، ثم إنه إعمال لدين وشرع رب الأرضين والسماوات، وخالق البريات سبحانه، وإلا أنه يتبقى مساحة، يعمل فيها هذا القائد، وحين دلت القرائن، على نزاهته، وحين برهنت الدلائل على أمانته، وليس يعد ذلك افتئاتًا على الشرع من شيء، وليس يعتبر ذلك تعسفًا في استخدام السلطات من شيء أيضًا؛ وذلك لأن قسمة ونصيبًا مفروضًا، كانتا له صلى الله عليه وسلم، وهو مطلق اليد في استخدامهما، عطاءً أو منعًا لهذا أو ذاك.
وبيد أن سبيلًا شرعه الرحمن، ومن شأنه كان فعله صلى الله عليه وسلم ذلكم أيضًا، وحين قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 60].
وهذا الطريقان هما اللذان أراهما، وجمعًا بين قسمة القرآن الكريم، لمسائل الغنائم، ودفعًا ومنحًا وعطاءً رأيناه من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكما رأيناه الآن، ومن خلال حديث الإمام البخاري رحمه الله تعالى السابق الذكر.
خلاصة: إن إعطاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن نصيبه للآخرين، وكذا من قسمة الله تعالى، وكم دل على عدله! من جانب، وكم برهن على جوده! ومن جانب ثان، وكم أفاد بعد نظره! ومن ثالث، وحين كان يتألف قلوب قوم، ومن أمثال مالك بن عوف النصري، ولما ينقلب من عدو لدود، وإلى ولى رشيد، وليس ببعيد عنا فعله ومن مثله مع صفوان بن أمية ويوم الناس هذا أيضًا، وحتى قال قوله المشهور، وفي هذا الشأن: لقد أعطاني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ حُنينٍ وإنَّه لَمِن أبغضِ النَّاسِ إليَّ فما زال يُعطيني حتَّى إنَّه لَأحبُّ الخَلقِ إليَّ[11].
هذا، وليس يفوتنا ذلكم الحظ والنصيب، وحين جعله الله تعالى للمؤلفة قلوبهم من المسلمين، حدثاء العهد بكفرهم الذي سبق، أو أولاء المشركين، وحين يكتفى شرهم بعطاء، ولما يستشرف خيرهم بمنح.
ولكن هذا ليس يصرفنا عن هكذا قوم، كانوا فوق المادة، ولما علت نفوسهم بإيمانهم، وحين سمت واشرأبت أعناقهم بالتقوى، وحين استوى لديهم منعهم، أو منحهم، ومن أمثال عمرو بن تغلب هذا، وحين منعه نبينا صلى الله عليه وسلم، ولما علم من إيمان في قلبه وقر، وحين أيقن من يقين في فؤاده استقر! وهذه درجة، بل درجات، وعلى حال تبين كم كان في هذا الجيل من مترفع، وكم كان منه من شريف النفس، وكم كان منه من هو عال في الهمة، وإذ هو سامق في القمة، ولا نظر هنا إلى كونه كان فقيرًا أو غنيًّا، ولأن النفوس العالية عالية، ودونما نظر إلى حاجة أو عوز، ودون إبصار لغنى أو سعة.
* * *
إسلام مالك بن عوف النصري! قال الإمام ابن إسحاق رحمه الله تعالى: واستعمله رسول الله ﷺ على من أسلم من قومه، وتلك القبائل ثمالة، وسلمة، وفهم، فكان يقاتل بهم ثقيفا لا يخرج لهم سرج إلا أغار عليه حتى ضيَّق عليهم[12].
وسبحان من كانت، وتكون، ولا تزال القلوب بين إصبعين من أصابعه تعالى، يقلبها كيف يشاء.
ولأن هذا هو مالك بن عوف النصري، وقد من الله تعالى عليه بالإسلام، ومن بعد حرب شعواء ضارية، خاضها ضد الفئة المؤمنة، وفي ثلاث جولات، أذاقه الله تعالى الخزي، والدمار، والخسار، والبوار.
ولعل هذا من فعله تعالى في كونه، ومن تصرفه الحكيم العظيم القدر، وحين يمهل عبدا كل هذا القدر من الزمن، ويهديه ومن بعد ما رأى الآيات تترى!
ولكن العجب العجاب، هو ذلكم التحول من زعيم قوم ثقيف، وفي حربهم ضد محمد النبي الرسول صلى الله عليه وسلم، وثم ها هو الآن يقف زعيما، وعلى حرب ثقيف، وبمن أسلم معه، ومن قبائلهم هم! وحين قدمه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أميرًا على ثلاث منها، وحين أسلمت وجهها لله تعالى، ولتكون قضًّا لمضاجع الكفر، وفي مكسب آخر جديد، يمن به الله تعالى على قلوب قوم مؤمنين، وحين تطهر الأرض، شبرًا شبرًا، وباعًا باعًا، من رجس كفر ظليم، ومن بهتان شرك عظيم.
ولكن هذا العمل الفائق هدي نهتديه، ورسم نترسمه، وحين يتميز القائد بطول نفسه، وليشتت تجمع الشرك، ويفرق جمع الكفر، وحين يسلم فريق منهم، وليتوبوا، ومن ثم يكونون هم رأس حربته على أقوامهم، ولأن أهل مكة أدرى بشعابها.
وهذه هي ثقيف ينفصم عنها ثلاث قبائل كاملة، هي ثمالة، وسلمة، وفهم، لتقاتلها، ولتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، وليس ذلك فحسب، وإنما يقودهم هذا مالك بن عوف النصري رضي الله تعالى عنه، وحين قد تبدى بدرًا بإسلامه؛ ولأن الإسلام نور، ولأنه ها هو وقد رجع بوجه غير ذلك الذي جاء به!
وهذا فن دعوي، وهو كذلكم إبداع عسكري، وحين يكونون هم أعلم بأقوامهم، وكيف يديرون حربهم معهم، وبكفاءة، لا كمثلم من أحد سواهم.
وأكرر: إن سياسة النفس الطويل عمل ممتاز، والصبر عمل أكثر امتيازًا، وأقوم عملًا، وحين يتمكن القائد من مجيء يوم يشق فيه جمع المشركين، ويفرقهم، ويشتتهم، وليضعفوا، وليوهنوا من بعد قوة، وليتفرقوا ومن بعد جمعهم، وليسهل عمل الدعوة فيهم، وييسر فعل القتل فيهم أيضًا، وحين لم تفلح معهم أدوات الدعوة القولية إلى الله تعالى الحق المبين.
* * *
سلي تعطي، واشفعي تشفعي وهذا هو خلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وحين جيء بأخته من الرضاعة الشيماء بنت الحارث، وكان الناس قد عنفوا بها وها هي تستجير بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنها أخت صاحبهم من الرضاعة، وها هي تجلس بين يديه صلى الله عليه وسلم، ولئن كانت صادقة فلديها دليل، وعندها برهان، ويوم أن أخبرها بأنها ولو كانت صادقة، فإن بينهما دليلًا لا يبلى، وإذ كان قد عضها عضة في عضدها، ويوم أن كانا صغارًا رضاعًا، في بادية بني سعد، ويوم أن كان فيهم مباركًا، وإذ تنزلت عليهم بركات السماء، واحتفاء به طفلًا، وتبركًا به نبيًّا منتظرًا صلى الله عليه وسلم.
ولكنه صلى الله عليه وسلم كان ذا الألفة، وحين أجلسها، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان قد أكرمها، وحين خيرها، وبين أن تكون عنده أختا مكرمة معزز، أو أن يردها إلى قومها معززة مكرمة أيضًا، وليمنحها غلامًا وجارية، هدية عطاء نبي، ومنحة رسول، ومن ثم لتعود إلى قومها.
وهذا فعل هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وإذ ليس في وسعنا، وليس في خلد غير ممن يعرفه، إلا ذلكم الحنو، وإلا ذلكم المنح، وإلا ذلكم العطاء، وإلا ذلكم الإكرام هديًا وسننًا حسنًا.
وعلى كل حال فإن هذا ليس ينسينا أن نبادر قولًا سبق ذكره، وأن العمل الإعلامي الصادق له أثره الإيجابي في تحريك القلوب والأسماع والأبصار، وحين أشعرت هوازن شعرًا، وإذ كان له من أثر، وحين تداعت له أحاسيس نبي حان كريم، يؤثر العفو، ويمكن الصفح، ويعتق الرق، ويحرر العبيد، وأيما سبيل لذلكم إلا سلكه، وحين سمع قول شاعرهم:
أمنن على نسوة قد كنت ترضعها
إذ فوك يملؤه من محضها درر
أمنن على نسوة قد كنت ترضعها
وإذ يزينك ما تأتي وما تذر
وهذا الذي كان سبيلًا إلى عفوه وإعتاقه، برهان آخر على كم كان خلق هذا النبي، وحُنوه، وعفوه، وصفحه، وتجاوزه، وإعتاقه، وحين نقدمه هكذا للعالمين، ولما قالوا إنه رق الرقيق، وعبد العبيد، وها هو صلى الله عليه وسلم، ما ترك مناسبة للحرية إلا سلكها، وما كان سبيل للانعتاق إلا ولَجَه صلى الله عليه وسلم.
ودلك على صحة مذهبنا هذا ما رواه الإمام البيهقي رحمه الله تعالى عن قتادة قال: لما كان يوم فتح هوازن جاءت جارية إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله أنا أختك، أنا شيماء بنت الحارث، فقال لها: «إن تكوني صادقة فإن بك مني أثر لا يبلى»، قال: فكشفت عن عضدها، فقالت: نعم يا رسول الله حملتك وأنت صغير، فعضضتني هذه العضة، قال: فبسط لها رسول الله ﷺ رداءه، ثم قال: «سلي تعطي، واشفعي تشفعي»[13].
وقد قيل: إنه أبويه من الرضاعة قد حضرا وأكرمهما أيضًا والله أعلم.
* * * «اللهم زده ثباتًا» وهذا دعاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم للنضير بن الحارث يوم الطائف ويوم استجمام قريش وهوازن وما سواها للنيل من هذه الدعوة الربانية الجديدة، وإذ كانت تتمثل بين أيديهم جمعًا دليل نبوته صلى الله عليه وسلم، وشاء الله تعالى أن تعمل في كثير منهم عملها، وقدر الله تعالى أن تترك في كثير منهم أثرها، وحتى كان منه إسلامهم، وحين جاؤوا بين يدي هذا النبي، معلنين التوبة، ورافعين أعلام الأوبة.
وقد كان منهم النضير بن الحارث هذا، ولما كان عقد قلبه أن ينال من نبينا صلى الله عليه وسلم، يوم حنين مأربًا، ولكنه الله تعالى رب العالمين، ولما يعصم نبيه، ويكأنه الله تعالى ذو السلطان القديم، ولما يحفظ نبيه ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، وإذ نعرف هذا، وندركه ونعلمه، ونوقنه، ونقف عليه، ونشير إليه؛ ولأنه الله تعالى، وحين قال تعالى ﴿ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾[النساء:67].
وإذ نترك هذا الحديث الذي دار بين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وبين هذا النضير بن الحارث، ولنقف على ما وراء الحدث، وما وراء الحدث هو دليل النبوة، وبرهان الرسالة، وما خلف الحدث، هو إسلام النضير بن الحارث رحمة من ربه تعالى، وحين تندم على يوم عادى فيه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فقد ذكر الواقدي عن إبراهيم بن محمد بن شرحبيل، عن أبيه قال: كان النضير بن الحارث بن كلدة من أجمل الناس، فكان يقول: الحمد لله الذي منَّ علينا بالإسلام، ومنَّ علينا بمحمد ﷺ، ولم نمت على ما مات عليه الآباء، وقُتِل عليه الإخوة وبنو العم، ثم ذكر عداوته للنبي ﷺ، وأنه خرج مع قومه من قريش إلى حنين وهم على دينهم بعد، قال: ونحن نريد إن كانت دائرة على محمد أن نغير عليه، فلم يمكنا ذلك، فلما صار بالجعرانة فوالله إني لعلى ما أنا عليه إن شعرت إلا برسول الله ﷺ فقال: «أنضير؟»، قلت: لبيك، قال: «هل لك إلى خير مما أردت يوم حنين مما حال الله بينك وبينه؟»، قال: فأقبلت إليه سريعًا، فقال: «قد آن لك أن تبصر ما كنت فيه توضع»، قلت: قد أدري أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئًا، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فقال رسول الله ﷺ: «اللهم زده ثباتًا»، قال النضير: فوالذي بعثه بالحق لكأن قلبي حجر ثباتًا في الدين، وتبصرة بالحق، فقال رسول الله ﷺ: «الحمد لله الذي هداه»[14].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
12-31-2022, 07:28 PM
|
#2
|
جزاك الله خير
وأحسن إليك فيما قدمت
دمت برضى الله وإحسانه وفضله
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
01-02-2023, 07:22 AM
|
#3
|
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
الساعة الآن 12:36 AM
| | |