البركة وكيف تستجلب؟
الخطبة الأولى
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فإن كل مسلم يحب أن يبارك الله له في عمله، وعلمه، وعمره، وأولاده، ورزقه، والبركة هي: النماء والزيادة، وكثرة الخير ودوامه، والبركة هبة من الله تعالى، فإذا بارك الله للمسلم في عمره، أطاله على طاعته ونفع بآثار عمله، وإذا بارك له في عمله الصالح، وَجَدَ قوةً ونشاطًا وهمةً لأعمال صالحة متنوعة، يعجز عنها ويتكاسل عن أدائها الكثيرون، وإذا بارك الله في الصحة، حفظها لصاحبها ومتعه بقواه كلها، وإذا بارك الله في المال، نمَّاه وكثَّره، وأصلحه وثمره، ورزق صاحبه القناعة بهذا المال ولم يشقه به، ووفقه لصرفه في أمور الخير وأبواب الطاعات من أوقاف وصدقات، وعلى ما يدخل السرور عليه ويبهجه، وإذا بارك الله في الأولاد، رَزقَ الوالدين برهم ودعاءهم، ونفعهم، وإذا بارك الله في الزوجة، أقرَّ بها عين زوجها، إن نظر إليها سرته، وإن غاب عنها حفظته، وإذا بارك الله في علم الإنسان، قاده للعمل الصالح والخشية، وانتفع به أهله وكل من خالطه، فأهل العلم باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وآثارهم في القلوب موجودة، وأجورهم جارية مسطورة[1].
عباد الله: وتُستجلب البركة من الله تعالى بأمورٍ؛ منها:
1- تقوى الله تعالى، والتوكل عليه؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96]، وقال سبحانه: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 2، 3]، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصًا، وتروح بطانًا))؛ [صحيح الترمذي، الصفحة أو الرقم: 2344))].
2- كما تستجلب البركة بإخراج الزكاة والصدقة؛ وفي قوله تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 103]؛ هي الزكاة المفروضة، ﴿ تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾؛ أي: تطهرهم من الذنوب والأخلاق الرذيلة، ﴿ وَتُزَكِّيهِمْ ﴾؛ أي: تنميهم، وتزيد في أخلاقهم الحسنة، وأعمالهم الصالحة، وتزيد في ثوابهم الدنيوي والأخروي، وتنمي أموالهم؛ [السعدي، تيسير الكريم الرحمن، ص 350].
3- وتستجلب البركة ببر الوالدين وصلة الرحم: عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من سَرَّه أن يُبسط له في رزقه، أو يُنسأ له في أثره، فليصلْ رحمه))؛ [صحيح البخاري، الصفحة أو الرقم: 2067]، وفي هذا الحديث: بيان أن الأعمال الصالحة يبقى أثرها، ويمتد ذكرها في حياة الإنسان وبعد موته، وتكون له عمرًا مديدًا يضاف إلى عمره الحقيقي.
4- وتستجلب البركة بقراءة القرآن وتدبره والعمل به؛ قال سبحانه: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأنعام: 155]؛ يقول السعدي رحمه الله: "﴿ وَهَذَا ﴾ القرآن العظيم، والذكر الحكيم، ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ﴾؛ أي: فيه الخير الكثير والعلم الغزير، وهو الذي تستمد منه سائر العلوم، وتستخرج منه البركات، فما من خير إلا وقد دعا إليه ورغب فيه، وذكر الحكم والمصالح التي تحث عليه، وما من شر إلا وقد نهى عنه وحذر منه، وذكر الأسباب المنفرة عن فعله وعواقبها الوخيمة، ﴿ فَاتَّبِعُوهُ ﴾ فيما يأمر به وينهى، وابنوا أصول دينكم وفروعه عليه ﴿ وَاتَّقُوا ﴾ الله تعالى أن تخالفوا له أمرًا ﴿ لَعَلَّكُمْ ﴾ إن اتبعتموه ﴿ تُرْحَمُونَ ﴾، فأكبر سبب لنيل رحمة الله اتباع هذا الكتاب، علمًا وعملًا"؛ [السعدي، تيسير الكريم الرحمن، ص 281].
5- وتستجلب البركة بالصدق في البيع والشراء: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا - أو قال: حتى يتفرقا - فإن صدقا وبينا بُورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا مُحقت بركة بيعهما))؛ [أخرجه البخاري (2079)، ومسلم (1532)].
6- وتستجلب البركة أيضًا بالدعاء: وفي صحيح مسلم: ((اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا، واجعل مع البركة بركتين))؛ [صحيح مسلم، الصفحة أو الرقم: 1374]، ومن الدعاء: الدعاء لمن أكل عندهم بالبركة، والدعاء بعد الطعام، والدعاء لمن رأى شيئًا جميلًا أعجب به، ودعاء الزوج عند إتيان زوجته، والدعاء للزوجين عند الزواج، والدعاء للمولود عند ولادته، وغير ذلك من الأدعية.
عباد الله: ومما تستجلب به البركة:
7- الاستغفار؛ كما قال تعالى: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 11، 12].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم؛ إنه تعالى جواد كريم، ملك بر، رؤوف رحيم؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن من الأسباب التي تجلب البركة:
8- أن يأخذ المسلم المال بحقه، وأن يحرص على المال الحلال وأن ينفقه فيما يرضي الله تعالى؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا المال خضرة حلوة، من أصابه بحقه بُورك له فيه، ورُبَّ متخوِّض فيما شاءت به نفسه من مال الله ورسوله، ليس له يوم القيامة إلا النار))؛ [صحيح الترمذي، الصفحة أو الرقم: 2374]، وفي هذا الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا المال خضرة حلوة))؛ أي: شبه المال بالثمرة الخضرة الحلوة المذاق التي تميل إليها الطباع والنفوس، ((من أصابه بحقه))؛ أي: من أخذ هذا المال على قدر ما يستحقه، وكانت نفقته في سبيل الله والمساكين واليتامى، ((بورك له فيه))؛ أي: حلت عليه البركة بالزيادة والنماء، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ورب متخوض))؛ أي: متصرف فيه بما لا يرضي الله، أو أخذه بغير حقه، ((فيما شاءت به نفسه))؛ أي: فيما اشتهت فيه نفسه ورضيت به، ((من مال الله ورسوله))؛ أي: من الصدقات والغنيمة والزكاة، ((ليس له يوم القيامة إلا النار))؛ أي: كان جزاؤه وعقوبته أن يدخله الله النار، وفي الحديث: الحث على إنفاق المال فيما يرضي الله تعالى[2].
• فاتقوا الله عباد الله، وصلوا وسلموا على محمد رسول الله؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من صلى عليَّ صلاة، صلى الله عليه بها عشرًا))، اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنِّك وكرمك يا أكرم الأكرمي
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|