تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
جَمَعَ اللهُ تعالى لنبيِّه الكريم صلى الله عليه وسلم من الصفات والخصائص ما لم يجمعه لبشر، وافترض على العباد طاعته وتعظيمه وتعزيره وتوقيره ورعايته والقيام بحقوقه، وامتثال ما جاء عنه من المنطوق والمفهوم، والصلاة عليه والتسليم، ونشر شريعته بالعلم والتعليم، وجعل الطُّرقَ مسدودةً عن جنته؛ إلاَّ مَنْ سلَكَ طرِيقَه واعترفَ بمحبَّتِه، وشرح له صدرَه، ورفع له ذِكرَه، ووضع عنه وِزرَه، وجعل الذِّلةَ والصَّغارَ على مَنْ خالف أمرَه، فيا سعدَ مَنْ وُفِّقَ لذلك، ويا وَيْحَ مَن قصَّر عن هذه المسالك[1].
ومن دلائل اتِّباع السُّنة تعظيم النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتوقيره وإجلاله، وتعظيم سُنَّته؛ بل ذلك من شعب الإيمان العظيمة، ومن حقوقه صلى الله عليه وسلم على أمته أن يُهاب ويُعظَّم ويُوقَّر ويُجلَّ أكثر من كلِّ ولدٍ لوالده، ومن كلِّ عبدٍ لسيِّده، وقد أمر الله تعالى بذلك في القرآن العظيم بقوله: ﴿ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ﴾ [الفتح: 9]. وقال سبحانه: ﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157].
قال ابن تيمية رحمه الله: (التعزير: اسم جامع لِنَصرِه وتأييدِه ومَنعِه من كلِّ ما يؤذيه. والتوقير: اسم جامع لكلِّ ما فيه سكينة وطمأنينة؛ من الإجلال والإكرام، وأنْ يُعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كلِّ ما يُخرجه عن حدِّ الوقار)[2]. وقال ابن كثير رحمه الله: (التوقير: هو الاحترام، والإجلال، والإعظام)[3].
قال الحليمي رحمه الله: (فمعلوم أنَّ حقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلَّ وأعظمَ وأكرمَ وألزمَ لنا وأوجبَ علينا من حقوق السَّادات على مماليكهم، والآباء على أولادهم؛ لأنَّ الله تعالى أنقَذَنا به من النار في الآخرة، وعَصَم به لنا أرواحنا وأبداننا وأعراضنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا في العاجلة، فهدانا به لِمَا إذا أطعناه فيه أدَّانا إلى جنات النعيم. فأية نعمةٍ توازي هذه النِّعم، وأية مِنَّةٍ تُداني هذه المِنَن؟
ثم إنه جلَّ ثناؤه ألْزَمَنا طاعتَه، وتوعَّدَنا على معصيته بالنار، ووعدنا باتِّباعه الجنة. فأيُّ رُتبةٍ تُضاهي هذه الرُّتبة، وأيُّ درجةٍ تُساوي في العلا هذه الدرجة؟ فحَقٌّ علينا أنْ نُحِبَّه ونجِلَّه ونُعظِّمه ونَهابَه أكثرَ من إجلال كلِّ عبدٍ سيِّدَه وكلِّ ولدٍ والِدَه. وبمثل هذا نَطَقَ القرآنُ، ووَرَدَت أوامِرُ الله جلَّ ثناؤه)[4].
والإسلام دين الخُلُق الحَسَن والفِعل الجميل، دين العرفان بحقوق الناس، جعل الله فيه طاعة الوالدين من أوجب الواجبات ما لم تُخالف الشريعة، وبِرَّهما من أعظم القربات وإن لم يؤمِنا بالله تعالى؛ لأنهما سبب وجود الإنسان في هذه الحياة.
فإذا كان هذا في حقِّ الوالدين - وهما كافران؛ لأنهما سبب الوجود في حياةٍ قصيرة فانية، تملؤها الابتلاءات والمحن، فما الظَّن بمَنْ هو سبب السعادة لك في الدنيا، وسبب حياتك في الآخرة، ونعيمك في الجنة، إنَّ الآباء وإنْ كانوا سبباً مباشراً في حياة فانية، ولا يمنحوها إلاَّ لأبنائهم الذين من أصلابهم وأترابهم، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب في عودتك حيًّا بعد موتك، ولكنها حياة سرمدية أبدية، تهنأ فيها أبداً، وتخلد فيها أبداً، وقد منَحَها لك، وليس بينك وبينه نسب أو صهر، ألا يستوجب ذلك منك تعظيمَه وتوقيرَه ومتابعتَه.
والصحابة الكرام رضي الله عنهم هم أكثر الناس تعظيماً وتوقيراً للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أعرف الأمة به، وما أجمل ما وصفهم به عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه – حين فاوَضَ النبيَّ في صلح الحديبية، فلمَّا رجع إلى قريش قال لهم: (أَيْ قَوْمِ! وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ؛ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ)[5].
وجاء وصف الصحابة الكرام رضي الله عنهم حال مجالستهم للنبي صلى الله عليه وسلم واستماعهم له، بما وصفهم به أبو سعيد الخدري رضي الله عنه بقوله: (وَسَكَتَ النَّاسُ؛ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِمِ الطَّيْرَ)[6]؛ تعظيماً له وإجلالاً وتوقيراً واحتراماً لمقامه الشريف صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك ما قاله عمرو بن العاص رضي الله عنه: (وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ؛ إِجْلاَلاً لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ لأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ)[7].
وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره لا بد أن يكون بالقلب، واللسان، والجوارح:
فأمَّا تعظيمه صلى الله عليه وسلم بالقلب: فيكون بالاعتقاد الجازم بأنه صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله، وتقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين، وتوقيره وتعزيره وإجلاله واستحضار محاسنه، وذكره بالقلب من الاعتراف به والتعظيم له والإذعان.
وأمَّا تعظيمه صلى الله عليه وسلم باللسان: فيكون بكثرة الثناء عليه صلى الله عليه وسلم بما هو أهله من غير غلوٍ ولا تقصير، وأعظم الثناء عليه: الصلاة والسلام عليه؛ كما أمر الله تعالى عبادَه المؤمنين في قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]. والمراد بقوله: ﴿ صَلُّوا عَلَيْهِ ﴾ أي: (ادعوا ربَّكم بالصلاة عليه)[8].
و(معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: تعظيمه، فمعنى قولنا: (اللَّهُمَّ صَلِّ على مُحمدٍ) عَظِّمْ محمداً. والمراد: تعظيمه في الدنيا؛ بإعلاء ذِكره، وإظهار دينه، وإبقاء شريعته. وفي الآخرة؛ بإجزال مثوبته، وتشفيعه في أُمَّته، وإبداء فضيلته بالمقام المحمود)[9]. وقوله: ﴿ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ أي: (حَيُّوه بتحية الإسلام)[10].
ومن تعظيمه صلى الله عليه وسلم باللِّسان: الإكثار من ذِكره، ولزوم الأدب حال ذِكره باللَّسان؛ بأن نقرن ذِكْرَ اسمِه بلفظ النبوة أو الرسالة مع الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم؛ إنفاذاً لقوله سبحانه: ﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ﴾ [النور: 63] بأن يُميَّز النبيُّ صلى الله عليه وسلم حال المخاطبة والنداء بأن يُقال: يا رسول الله! يا نبي الله! ولا يقال: يا محمد! فيجب أن يقترن ذكره بالنبوة أو الرسالة تعظيماً وتوقيراً له باللسان مع الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وهو الذي حذَّر من ترك الصلاة عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: (رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ)[11]، ووصَفَه بالبُخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (الْبَخِيلُ؛ الَّذِي مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ؛ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ)[12].
ويدخل في تعظيمه صلى الله عليه وسلم باللسان: (تعداد فضائله وخصائصه ومعجزاته ودلائل نبوته وتعريف الناس بسنته وتعليمهم إياها، وتذكيرهم بمكانته ومنزلته وحقوقه، وذِكر صفاته وأخلاقه وخلاله، وما كان من أمر دعوته وسيرته وغزواته، والتَّمدُّح بذلك شِعراً ونثراً، بشرط أن يكون ذلك في حدود ما أمر به الشارع الكريم، مع الابتعاد عن مظاهر الغلو والإطراء المحظور)[13].
وأمَّا تعظيمه صلى الله عليه وسلم بالجوارح: فيكون بالعمل بشريعته، وتحكيمها والرضا بحكمها والتسليم لها، ودعوة الناس إليها، وتبليغها للناس، والسعي في إظهارها، والذب عنها وتعلُّمها وتعليمها، وجهاد مَنْ خالفها، واجتناب ما نهت عنه الشريعة، والبعد عن المعاصي والمخالفات، والتوبة والاستغفار عما وقع من التقصير والزلل[14].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|