أثر الصلح على الدعوة الإسلامية وانتشارها (1)
كان صلح الحديبية فتحًا عظيمًا ونصرًا مؤزرًا للإسلام، وقد كانت شروطه في الصورة الظاهرة ضيمًا وهضمًا للمسلمين، وفي الباطن عزًا وفتحًا ونصرًا.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المشركين كل ما سألوه من الشروط التي لم يحتملها أكثر أصحابه ورؤوسهم، وهو - صلى الله عليه وسلم - يعلم ما في ضمن هذا المكروه من محبوب[1]، وقد ظهر ما فيه من مكاسب للدعوة الإسلامية، (فإنه بسببه حصل خير جزيل، وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر، وانتشر العلم النافع والإيمان)[2].
وقد فتح الله بهذا الصلح آفاقًا واسعة، وهيأ للدعوة مجالات جديدة، فانطلقت في شتى الميادين لتزيل الغشاوة عن أعين الناس، وقد كان لذلك أفضل الأثر في رفع شأن الدولة الإسلامية، وتعزيز كيانها، فكان الصلح بحق فتحا عظيما على الإسلام والمسلمين، حتى قال البراء بن عازب[3] رضي الله عنه: (تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان، يوم الحديبية)[4].
ومن آثار الصلح الميمونة على الدعوة الإسلامية وانتشارها:
1- تعزيز كيان الدعوة الإسلامية، واعتراف المشركين بها:
كانت قريش تعتبر المسلمين عصاة شقوا عليها عصا الطاعة، وشرذمة متمردة لا كيان لها، وقد حاولت القضاء عليهم مرات عديدة، فباءت جميع محاولاتها بالفشل.
وقد كان في سعي قريش للصلح، وتفاوضهم مع المسلمين، وبعث مندوبها سهيل بن عمرو لذلك، اعترافا منها بكيان دولة الإسلام[5]، وبأن المسلمين أصبحوا قوة تضاهي قوة قريش، وأن لهم الحق في زيارة البيت الحرام، كغيرهم من العرب، وفي ذلك دعاية للإسلام، وتعزيز لجانبه، ولهذا أثر قوي في نفوس القبائل التي تأثرت بموقف قريش الجحودي، الرافض للإسلام، حيث كانوا يرون أنها الإمام والقدوة، فتنازلها كان تمهيدا لاتساع نفوذ الإسلام وسطوته.
ولما حل ميعاد عمرة القضاء أذن مؤذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المسلمين أن يتجهزوا للعمرة وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد (قاضاهم على أن يعتمر العام المقبل، ولا يحمل سلاحا عليهم إلا سيوفًا، ولا يقيم بها إلا ما أحبوا، فاعتمر من العام المقبل، فدخلها كما كان صالحهم، فلما أن أقام بها ثلاثًا، أمروه أن يخرج فخرج)[6].
وكذلك كان في قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مكة بعد استدارة العام، آمنًا مطمئنا، يطوف بالبيت العتيق ويسعى بين الصفا والمروة - كان في ذلك إثباتًا لحقهم في البيت الحرام، وتصديقًا للرؤيا التي أراها الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، في قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾[7].
2- تفرغ المسلمين لنشر الدعوة الإسلامية:
هيَّأ صلح الحديبية للمسلمين أن يستريحوا من القتال والحرب، وينصرفوا إلى تبليغ دعوة الإسلام، مما أدى إلى دخول الكثير من القبائل فيه.
قال الإمام الزهري رحمه الله:
(فما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وأمن الناس بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، ولم يكلم أحد في الإسلام يعقل شيئا، إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر).
ويعقب عليه ابن هشام رحمه الله فيقول:
( والدليل على قول الزهري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الحديبية، في ألف وأربعمائة.. ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف)[8].
3- كسب الدعوة الإسلامية أنصارا جددا للدعوة:
كان من ضمن شروط المصالحة، إتاحة الفرصة للقبائل العربية في الانضمام إلى عهد المسلمين ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين أو إلى عهد المشركين ولهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وما أن كتبت الوثيقة، حتى كسب المسلمون إلى صفهم قبيلة عظيمة، انضمت إلى عهدهم وهي قبيلة خزاعة، فقد روى الإمام أحمد رحمه الله: (فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعقده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم)[9].
ومبادرة خزاعة -مسلمهم ومشركهم- للتحالف مع المسلمين علنا، دون هيبة قريش، كسب عظيم للمسلمين، وذلك لمكانتها وقربها من الحرم، ولقوة العلاقة بينها وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم -[10]، وقد كان هذا العقد في صالح المسلمين، إذ توالت الأحداث بعد ذلك، وكان نقض العهد قبل أوانه، بسبب هذه القبيلة، حيث نقضته قبيلة بنو بكر مع حليفتها قريش، فكان ذلك سببا في فتح مكة - كما سيأتي إن شاء الله.
4- تأثر المشركين بواقع الإسلام والمسلمين:
تأثر بعض المشركين بما رأوا من المسلمين - أثناء عقد الصلح - من انضباط وتضحية، وتلاحم في صفوفهم، فهذا عروة بن مسعود الذي بعثته قريش ليخذل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها، يعود وهو داعية للرسول - صلى الله عليه وسلم -، لما رأى من صلابة الصف المسلم، الذي أبدى من ضروب الطاعة والنظام ما أذهل عروة[11]، فيرجع إلى قريش وهو يقول: (أي قوم والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا.... وأنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها)[12].
وكذلك أتاح الصلح الفرصة للمسلمين وللمشركين، أن يختلط بعضهم ببعض، فتأثر كثير من عقلاء المشركين بعظمة الإسلام وتعرفوا على حقيقته (وذلك أنهم قبل الصلح، لم يكونوا يختلطون بالمسلمين، ولا تتظاهر عندهم أمور النبي - صلى الله عليه وسلم - كما هي، ولا يحلُّون بمن يعلمهم بها مفصلة، فلما حصل صلح الحديبية اختلطوا بالمسلمين، وجاؤا إلى المدينة وذهب المسلمون إلى مكة، وحلُّوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونه، وسمعوا منهم أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - مفصلة بجزئياتها ومعجزاته الظاهرة.. وحسن سيرته وجميل طريقته وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك، فمالت نفوسهم إلى الإيمان، حتى بادر خلق منهم إلى الإسلام قبل فتح مكة، فأسلموا بين صلح الحديبية وفتح مكة، وازداد الآخرون ميلًا إلى الإسلام، فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم)[13]، وكان من الزعماء والقادة الذين تأثروا بالإسلام، واستجابوا له في تلك الفترة، خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة رضي الله عنهم أجمعين[14].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|