سيرة أبي ذر الغفاري رضي الله عنه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام النبوة، وبطل من أبطالها، صحابي جليل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبر، كان أحد السابقين إلى الإسلام، وشهد الكثير من المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
أسلم في مكة قبل الهجرة، ثم إنه رد إلى بلاد قومه غفار، فأقام بها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك، فلما أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم هاجر إليه ولازمه وجاهد معه، وكان بقي في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وكان آدم[1]، ضخمًا جسيمًا، كث اللحية، وكان رأسًا في الزهد والصدق، والعلم والعمل، قوالًا بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، وقد شهد فتح بيت المقدس مع عمر رضي الله عنه.
إنه أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، جندب بن جنادة، وقيل جندب بن سكن، وقيل بُرَيْر بن جنادة، وقيل برير بن عبد الله، وقد وردت قصة إسلامه في الصحيحين باختلاف ظاهر، الأولى:
روى مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: خرجنا من قومنا غفار.. أنا وأخي أُنيس وأُمنا.. فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة، فاكفني حتى آتيك، قال: فانطلق فراث[2] عليَّ، ثم أتاني، فقلت: ما حبسك؟ قال: لقيت رجلًا يزعم أن الله أرسله على دينك، قال: فقلت: ما يقول الناس له؟ قال: يقولون: إنه شاعر وساحر وكاهن، وكان أنيس شاعرًا، قال: فقال: قد سمعت قول الكهان، فما يقول بقولهم، وقد وضعت قوله على أقراء الشعر[3]، فوالله ما يلتئم لسان أحد أنه شعر، والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون.
قال: فقلت له: هل أنت كافيَّ حتى أنطلق فأنظر؟[4] قال: نعم، فكُن من أهل مكة على حذر، فإنهم قد شنفوا له[5]، وتجهموا[6] له.
قال: فانطلقت حتى قدمت مكة، فتضعَّفت[7] رجلًا منهم، فقلت: أين هذا الرجل الذي تدعونه الصابئ؟ قال: فأشار إلي، قال: الصابئ، فمال أهل الوادي علي بكل مدرة[8] وعظم حتى خررت مغشيًا علي، فارتفعت حين ارتفعت، كأني نُصب أحمر[9]، فأتيت زمزم فشربت من مائها، وغسلت عني الدم، فدخلت بين الكعبة وأستارها، فلبثت به - ابن أخي - ثلاثين، من بين يوم وليلة، وما لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عُكن[10] بطني، وما وجدت على كبدي سخفة[11] جوع.
قال رضي الله عنه: فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان[12].. فضرب الله على أصمخة[13] أهل مكة، فما يطوف بالبيت غير امرأتين، فأتتا علي، وهما تدعوان إساف ونائلة[14]، قال: فقلت: أنكحوا أحدهما الآخر، فما ثناهما ذلك، فأتتا علي، فقلت: وهن[15] مثل الخشبة، غير أني لم أكن[16]، فانطلقتا تولولان، وتقولان: لو كان هاهنا أحد من أنفارنا!
قال: فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، وهما هابطان من الجبل، فقال: «مَا لَكُمَا؟» قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها، قالا: «مَا قَالَ لَكُمَا؟» قالتا: قال لنا كلمة تملأ الفم[17].
قال رضي الله عنه: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه حتى استلم الحجر، فطاف بالبيت، ثم صلى، قال: فأتيته، فكنت أول من حياه بتحية أهل الإسلام، فقال: «عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، مِمَّنْ أَنْتَ؟» قال: قلت: من غفار، قال: فأهوى بيده، فوضعها على جبهته، قال: فقلت في نفسي: كره أني انتميت إلى غفار، قال: فأردت أن آخذ بيده، فقذفني صاحبه، وكان أعلم به مني، قال: «مَتَى كُنْتَ هَاهُنَا؟» قال: كنت ها هنا منذ ثلاثين من بين ليلة ويوم، قال: «فَمَنْ كَانَ يُطْعِمُكَ؟» قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، قال: فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، وِإنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ»، قال أبو بكر رضي الله عنه: ائذن لي يا رسول الله! في طعامه الليلة، قال: ففعل، قال: فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم وانطلق أبو بكر رضي الله عنه، وانطلقت معهما، حتى فتح أبو بكر بابًا، فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف، قال: فكان ذلك أول طعام أكلته بها، فلبثت ما لبثت، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي قَدْ وُجِّهْتُ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ، وَلَا أَحْسَبُهَا إِلَّا يَثْرِبَ، فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغٌ عَنِّي قَوْمَكَ؟ لَعَلَّ اللَّهُ أَنْ يَنْفَعَهُمْ بِكَ وَيَأْجُرَكَ فِيهِمْ؟» قال: فانطلقت حتى أتيت أخي أنيسًا، قال: فقال لي: ما صنعت؟ قال: قلت: إني صنعت أني أسلمت وصدقت.
قال: قال: فما بي رغبة عن دينك[18]، فإني قد أسلمت وصدقت، ثم أتينا أمنا، فقالت: فما بي رغبة عن دينكما، فإني قد أسلمت وصدقت، فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفارًا، فأسلم بعضهم...، وكان يؤمهم خفاف بن إِيماء بن رحضة الغفاري، وكان سيدهم يومئذ.
ثم قدمت قبيلة غفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة بعد أن ذهبت غزوة بدر، وأحد، وصادف قدومهم قدوم قبيلة أسلم، فلما أعلنوا إسلامهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا، وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ»[19][20].
رواية الإمام البخاري:
وفي رواية البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي، فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدمه وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر: فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلامًا ما هو بالشعر، فقال: ما شفيتني مما أردت، فتزود، وحمل شنة[21] له فيها ماء حتى قدم مكة، فأتى المسجد، فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، حتى أدركه بعض الليل، فرآه علي فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه، فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به علي فقال: أما[22] نال للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه، فذهب به معه، لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان يوم الثالث فعاد علي على مثل ذلك، فأقام معه، ثم قال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهدًا وميثاقًا لترشدنني فعلت، ففعل، فأخبره، قال: فإنه حق، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أصبحت فاتبعني.. فانطلق يقفوه[23]، حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه، فسمع من قوله، وأسلم مكانه.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي»، قال: والذي نفسي بيده؛ لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم قام القوم فضربوه حتى أوجعوه، وأتى العباس فأكب عليه، قال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجاركم إلى الشام؟ فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه، وثاروا إليه، فأكب العباس عليه[24].
وقد كانت لهذا الصحابي مواقف تدل على فضله وورعه وزهده، ونصرته لهذا الدين، فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا أَقَلَّتِ[25] الْغَبْرَاءُ[26]، وَلَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ[27] مِنْ رَجُلٍ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ»[28].
وقد أوصاه النبي صلى الله عليه وسلم بالصدع بالحق، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: «أَمَرَنِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ: أَمَرَنِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ، وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي، وَلَا أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقِي، وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ بِالْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللَّهِ، فَإِنَّهُنَّ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ»[29].
وقد كان كما أوصاه عليه الصلاة والسلام، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث الأحنف بن قيس قال: «قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَبَيْنَا أَنَا فِي حَلْقَةٍ فِيهَا مَلَأٌ مِنْ قُرَيْشٍ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ أَخْشَنُ الثِّيَابِ، أَخْشَنُ الْجَسَدِ، أَخْشَنُ الْوَجْهِ، فَقَامَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: بَشِّرِ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ[30] يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفَيْهِ[31]، وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفَيْهِ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيَيْهِ يَتَزَلْزَلُ، قَالَ: فَوَضَعَ الْقَوْمُ رُءُوسَهُمْ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ رَجَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا، قَالَ: فَأَدْبَرَ، وَاتَّبَعْتُهُ حَتَّى جَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ، فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ هَؤُلَاءِ إِلَّا كَرِهُوا مَا قُلْتَ لَهُمْ، قَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا، إِنَّ خَلِيلِي أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم دَعَانِي فَأَجَبْتُهُ، فَقَالَ: «أَتَرَى أُحُدًا؟» فَنَظَرْتُ مَا عَلَيَّ مِنَ الشَّمْسِ وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهُ يَبْعَثُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ، فَقُلْتُ: أَرَاهُ، فَقَالَ: «مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي مِثْلَهُ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُإِلَّاثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ»، ثُمَّ هَؤُلَاءِ يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا، لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا، قَالَ: قُلْتُ: مَا لَكَ وَلإِخْوَتِكَ مِنْ قُرَيْشٍ، لَا تَعْتَرِيهِمْ وَتُصِيبُ مِنْهُمْ، قَالَ: لَا، وَرَبِّكَ، لَا أَسْأَلُهُمْ عَنْ دُنْيَا، وَلَا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ، حَتَّى أَلْحَقَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ»[32].
رواية الإمام مسلم: ثم تنحى فقعد، قال: قلت من هذا؟ قالوا: هذا أبو ذر، قال: فقمت إليه، فقلت: ما شيء سمعتك تقول قبيل؟ قال: ما قلت إلا شيئًا قد سمعته من نبيهم صلى الله عليه وسلم، قال: قلت: ما تقول في هذا العطاء؟ قال: خذه فإن فيه اليوم معونة، فإذا كان ثمنًا لدينك فدعه[33].
وقد أوصاه النبي صلى الله عليه وسلم بالتعفف والصبر، والبعد عن الفتن، فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي ذر قال: «رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَأَرْدَفَنِي خَلْفَهُ، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، أَرَأَيْتَ إِنْ أَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ شَدِيدٌ لا تَسْتَطِيعَ أَنْ تَقُومَ مِنْ فِرَاشِكَ إِِلَى مَسْجِدِكَ، كَيْفَ تَصْنَعُ؟» قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «تَعَفَّفْ»، قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، أَرَأَيْتَ إِنْ أَصَابَ النَّاسَ مَوْتٌ شَدِيدٌ يَكُونَ الْبَيْتُ فِيهِ بِالْعَبْدِ – يَعْنِي الْقَبرَ[34] - كَيْفَ تَصْنَعُ؟» قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «اصْبِرْ»[35]، قال: «يَا أَبَا ذَرٍّ أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، يعني: حَتَّى تَغْرَقَ حِجَارَةُ الزَّيْتِ[36]مِنَ الدِّمَاءِ، كَيْفَ تَصْنَعُ؟» قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «اقْعُدْ فِي بَيْتِكَ، وَأَغْلِقْ عَلَيْكَ بَابَكَ»، قَالَ: فَإِنْ لَمْ أُتْرَكْ؟ قَالَ: «فَائْتِ مَنْ أَنْتَ مِنْهُم[37]، فَكُنْ فِيهِمْ»، قَالَ: فَآخُذُ سِلاحِي؟ قَالَ: «إِذَنْ تُشَارِكُهُمْ فِيمَا هُمْ فِيه، وَلَكِنْ إِنْ خَشِيتَ أَنْ يَرُوعَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ، فَأَلْقِ طَرَفَ رِدَائِكَ عَلَى وَجْهِكَ حَتَّى يَبُوءَ بإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ»[38].
وقد اعتزل رضي الله عنه في آخر حياته بالربذة[39] بالقرب من المدينة.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث إبراهيم - يعني ابن الأشتر - أن أبا ذر حضره الموت وهو بالربذة، فبكت امرأته، فقال: ما يبكيك؟ قالت: أبكي أنه لا يد لي بنفسك، وليس عندي ثوب يسعك كفنًا، فقال: لا تبكي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأنا عنده في نفر يقول: «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ يَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»، قال: فكل من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وفرقة، فلم يبق منهم غيري، وقد أصبحت بالفلاة أموت، فراقبي الطريق، فإنك سوف ترين ما أقول: فإني والله ما كَذبت ولا كُذبت، قالت: وأنى ذلك وقد انقطع الحاج؟ قال: راقبي الطريق.
قال: فبينا هي كذلك إذا هي بالقوم تخد بهم رواحلهم كأنهم الرَّخمُ، فأقبل القوم حتى وقفوا عليها فقالوا: ما لك؟ قالت: امرؤ من المسلمين تكفنونه وتؤجرون فيه! قالوا: ومن هو؟ قالت: أبو ذر، ففدوه بآبائهم وأمهاتهم، ووضعوا سياطهم في نحورها يبتدرونه، فقال: أبشروا، أنتم النفر الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم ما قال، أبشروا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا مِنَ امْرَأَيْنِ مُسْلِمَيْنِ هَلَكَ بَيْنَهُمَا وَلَدَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فَاحْتَسَبَا وَصَبَرَا فَيَرَيَانِ النَّارَ أَبَدًا»، ثم قد أصبحت اليوم حيث ترون ولو أن ثوبًا من ثيابي يسعني، لم أكفن إلا فيه، فأنشدكم الله أن لا يكفِّننِّي رجل منكم كان أميرًا أو عريفًا أو بريدًا. فكل القوم كان قد نال من ذلك شيئًا إلا فتى من الأنصار كان مع القوم، قال: أنا صاحبك، ثوبان في عيبتي من غزل أمي، وأحد ثوبي هذين اللذين عليَّ. قال: أنت صاحبي فكَفِّنِّي[40].
وكانت وفاته سنة احدى وثلاثين، أو اثنين وثلاثين، وصلى عليه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ثم مات بعده في ذلك العام في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وعن ابن سيرين قال: سألت ابن أخت لأبي ذر: ما ترك أبو ذر؟ قال: ترك أتانين[41] وحمارًا، وأعتدًا وركائب[42] [43].
رضي الله عن أبي ذر، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|