ذكرى الهجرة وتعاقب الزمان
ينقضي عام هجري وتنقضى معه صفحة من صفحات عمر الواحد منا، تحوى هذه الصفحة ما عمله المسلم من خير وشر، تصعد إلى الله تعالى، في انتظار الأجر على الحسنات، وانتظار العفو والمغفرة عن السيئات والزلات، وهكذا ينبغي أن يفهم المسلم تعاقب الأيام، وتوالى السنون، فذلك من آيات الله تعالى، التي تدعو إلى العبرة والتفكر، ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 62]، هذه العبرة وذاك التفكر، يجعل المسلم دائمًا في حساب مع نفسه، حساب أهون عليه وأيسر من حساب الآخرة، فحساب الإنسان مع نفسه يتبعه فرصة للتوبة والرجوع إلى الله تعالى، والكف عن المعاصي والسيئات، أما حساب الآخرة فلا فرصة بعده لذلك، ولا مجال للتسويف والتأجيل، ولا مصير ينتظر الإنسان إلا الجنة أو النار، وكل يوم ينشق فجره، يخاطب من على قيد الحياة وله عقل يميز به، يقول له: يا ابن آدم، أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنمنى، فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة، والإنسان ما هو أيام، كلما ذهب يومه ذهب بعضه، فهو لا يزال فى هدم عمره منذ ولدته أمه، فالعاقل من نظر إلى مجىء الأيام والعوام بعين البصيرة، فشدد الحساب على نفسه، ليجد الحساب يسيرا يوم القيامة، روى أحمد في "مسنده"؛ ورواه غيره، عن شداد بن أوس - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني "، هذه النفوس التي تتنوع بين المطمئنة التى تقدم على كل خير دائمًا، واللوامة التي تقدم على الخير مرة وعلى الشر أخرى، ثم تندم على ما اقترفته من سوء، والأمارة بالسوء فهي التي ألفت المعصية، وطبع على قلب صاحبها، وغشاه الران، الذى يحول بينها وبين أن تهتدي، نسأل الله السلامة.
كذلك فإن نظرة الناس إلى المعصية تختلف، فمنهم من يرى ذنبه كجبل يوشك أن يقع عليه، فهو في خوف ووجل ورهبة من عاقبة هذا الذنب، فذاك المؤمن، ومنهم من يرى ذنبه كذبابة وقعت على وجه فأشار بيده وأزاحها بكل سهولة، وذاك المنافق والعياذ بالله، قال عمر بن الخطاب - رضى الله عنه -: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا"، فإنه أهون عليكم فى الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 18]، أما الفاجر والمنافق فقد استمرأ الظلم والفجور، فلا يعبأ بالحساب، ولا يعد للسؤال جوابًا.
قال الحسن البصرى - رحمه الله -: "إن المؤمن - والله - ما تراه إلا يلوم نفسه على كل حالته، يستقصرها فى كل ما يفعل، فيندم ويلوم نفسه، وإن الفاجر ليمضى قدما لا يعاتب نفسه "، وقال الحسن أيضا: " إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همه "، وقال ميمون بن مهران:" لا يكون العبد تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه "، وذكر الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ عن وهب قال: " مكتوب في حكم آل داود، حق على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات، ساعة يناجى فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه، ويصدقونه عن نفسه، وساعة يتخلى فيها بين نفسه وبين ملذاته فيما يحل ويجمل، فإن في هذه الساعة عونًا على تلك الساعات وإجمامًا للقلوب"، وقال مالك بن دينار: "رحم الله عبدًا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟؟!، ثم ذمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل فكان لها قائدًا".
وقد فهم بعض الناس حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لحنظلة - رضى الله عنه -: "ساعة وساعة " فهمًا خاطئًا، فقد روى مسلم عن أبي عثمان النهدي عن حنظلة الأسيدي قال: وكان من كتَّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله، ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج – أي: لاعبنا وداعبنا - والأولاد والضيعات فنسينا كثيرًا. قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما ذاك؟." قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده؛ إنكم لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة، ساعة وساعة، ثلاث مرات."
فقد أخذ البعض هذا الحديث حجة في ارتكاب المحرمات، وترك الفرائض التي أمر الله بها، ولكن المقصود به، أن يعطى الرجل لنفسه الحق فى الراحة وتناول ما أحله الله تعالى حتى لا تفتر نفسه، وإخراج الحديث عن معناه الصحيح لا يصدر إلا ممن اتبع هواه بغير هدى، وبرر لنفسه ارتكاب الموبقات.
إن المؤمن وهو يرى ويدرك مرور الزمان عليه، لا يزيده ذلك إلا قربًا من ربه، لأنه يعلم أن في مرور الأيام قربًا من قبره، وقد فطن إلى ذلك الأولون، لقي الفضيل بن عياض رجلا ؛ فقال له الفضيل: " كم عُمُرك؟ قال الرجل: ستون سنة، قال الفضيل: إذا أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله، توشك أن تصل، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، قال الفضيل: هل تعرف معناها؟؟ قال: نعم، أعرف أني عبدالله، وأني إليه راجع، فقال الفضيل: يا أخي، من عرف أنه لله عبد، وانه إليه راجع، فليعلم أنه موقوف بين يديه، ومن علم أنه موقوف فليعلم انه مسئول، ومن علم أنه مسئول فليعد للسؤال جوابا، فبكى الرجل وقال: ما الحيلة؟؟، قال الفضيل: يسيرة، قال: وما هي يرحمك الله؟ قال: تُحسن فيما بقى، يغفر الله لك ما قد مضى وما بقى، فإنك إن أسأت فيما بقى أُخذت بما مضى وما بقى".
إن الوقفات مع النفس لابد أن تستمر بين الحين والحين، تماما كما يكون اليوم بعد اليوم، والساعة تلى الساعة، ولا ييأس المذنب من عفو الله وغفرانه إن هو تاب توبة نصوحًا، ﴿ قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
يقول الشاعر محاسبًا نفسه وراجيًا عفو ربه:
إِلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّي
مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّي
وَما لي حيلَةٌ إِلا رَجائي
وَعَفوُكَ إِن عَفَوتَ وَحُسنُ ظَنّي
فَكَم مِن زِلَّةٍ لي في البَرايا
وَأَنتَ عَلَيَّ ذو فَضلٍ وَمَنِّ
إِذا فَكَّرتُ في نَدَمي عَلَيها
عَضَضتُ أَنامِلي وَقَرَعتُ سِنّي
يَظُنُّ الناسُ بي خَيراً وَإِنّي
لَشَرُّ الناس إِن لَم تَعفُ عَنّي
أُجَنُّ بِزَهرَةِ الدُنيا جُنوناً
وَأُفني العُمرَ فيها بِالتَمَنّي
وَبَينَ يَدَيَّ مُحتَبَسٌ طَويلٌ
كَأَنّي قَد دُعيتُ لَهُ كَأَنّي
وَلَو أَنّي صَدَقتُ الزُهدَ فيها
قَلَبتُ لأهلِها ظَهرَ المِجَنِّ[1]
نسأل الله تعالى أن يجعل عامنا هذا خيرًا من سالفه، وأن يجعل غدًا خيرًا من حاضرنا، إنه ولى ذلك والقادر عليه.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|