موسى عليه السلام (1)
نتحدَّثُ إليكم عن كبير أنبياء بني إسرائيل، أحد أُولي العزم من المرسلين، كليم الله موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، وعمران والد موسى عليه السلام من نسل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وليس هو عمران المذكور في سورة آل عمران المسمَّاة باسمه؛ حيث يقول الله عز وجل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 33]، فإن عمران هذا والد مريم أم عيسى عليه السلام، وقد بيَّن الله عز وجل ذلك في قوله بعد هذه الآية مباشرة: ﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: 34 - 36].
وبين عمران والد موسى وعمران والد مريم قريبٌ من ألفي سنة.
وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى الحالة التي كانت سائدةً بمصر عند ميلاد موسى عليه السلام؛ إذ كان ظلم فرعون وبَغيه على بني إسرائيل وفساده في الأرض قد بلغ أقصى حدود الطغيان، فجعل أهلها شيعًا، يقرِّب بعضهم، ويستضعف طائفةً منهم وهم بنو إسرائيل، يَذبح أبناءهم ويَستحيي نساءهم ويستعمل معهم صنوفَ الذلَّة، وأنواع الهوان والعذاب، وأراد الله عز وجل أن يَمُنَّ على الذين استُضعفوا في الأرض من بني إسرائيل، وكانوا يومها محصورين في مصر، وأن يبدِّل خوفَهم أمنًا، وأن يمكِّنَ لهم في الأرض، وأن يجعلَ منهم أئمَّةَ هدى، ويجعلهم الوارثين، وقد كان الحقد والبُغض لبني إسرائيل قد اشتعل في قلب فرعون وهامان وجنودهما بسبب ما ألقي في روعهم أن زوال ملكهم وتدميرهم سيكون على يد رجل من بني إسرائيل، ولكن الحذرَ لا ينجي من القدَر، فأراد الله عز وجل أن يُري ﴿ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ [القصص: 6].
فوُلد موسى عليه السلام في هذا الجوِّ الخانق، وخافت أمه أن يذبحه فرعون؛ لأن ميلاد موسى عليه السلام صادفَ إحدى النوبات التي يقوم بها فرعون بتذبيح أطفال بني إسرائيل الذكور، فأوحى الله تعالى إلى أم موسى أن أرضعيه، فإذا خشيتِ عليه من فرعون أن يذبحه فاصنعي له صندوقًا محكمًا كأنه سفينة، وضعيه في الصندوق وألقيه في نهر النيل، وأبعدي الخوف عن نفسك فلا تخافي ولا تحزني، فإن الله عز وجل سيحفظه لك، ويردُّه إليك، وسيكون ولدك هذا من المرسَلين، قال بعض أهل العلم: المراد بالوحي هنا وحي إلهام أو منام، قلت: لا مانع من أن يكون الله تبارك وتعالى أرسل لها ملكًا بهذا الوحي فآمنت به وصدقت بوعده، ولا يلزم من مجيء الملَك لها بهذه النصيحة أن تكون نبيَّة؛ فقد ثبت في صحيحي البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى، أراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكًا؛ فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لونٌ حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس، فمسحه فذهب عنه قذره، وأُعطي لونًا حسنًا، قال: فأي المال أحبُّ إليك؟ قال: الإبل أو قال: البقر - شكَّ الراوي - فأُعطي ناقة عشراء، فقال: بارك الله لك فيها، فأتى الأقرعَ فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عني الذي قذرني الناس، فمسحه فذهب عنه وأعطي شعرًا حسنًا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، فأعطي بقرةً حاملًا، قال له: بارك الله لك فيها، فأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يُردَّ الله إليَّ بصري فأبصر الناس؛ فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحبُّ إليك؟ قال: الغنم، فأُعطي شاة والدًا، فأنتج هذان وولد هذا؛ فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم، ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجلٌ مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرًا أتبلغ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرة، فقال: كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرًا فأعطاك الله؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابرًا عن كابر، فقال: إن كنت كاذبًا فصيَّرك الله إلى ما كنتَ، وأتى الأقرعَ في صورته وهيئته، فقال له مثل ما قال لهذا، وردَّ عليه مثل ما رد هذا، فقال: إن كنت كاذبًا فصيَّرك الله إلى ما كنتَ، وأتى الأعمى في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي ردَّ عليك بصرك شاةً أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنتُ أعمى فردَّ الله إليَّ بصري، فخذ ما شئتَ ودع ما شئتَ، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذتَه لله عز وجل، فقال: أمسك مالَك فإنما ابتُليتم فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك)).
فهذا الحديث الصحيح المتفق عليه يثبت أنَّ الله قد يبعث ملكًا لأحد من عباده وليس بنبيٍّ ولا برسولٍ، كما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن رجلًا زار أخًا له في قرية أخرى فأرصد الله تعالى على مدرجته ملَكًا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة ترُبُّها؟ قال: لا، غيرَ أنني أحببته في الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)).
فهذا يثبت أن الله تعالى قد يرسل ملَكًا إلى بعض الناس ويخاطبهم وليسوا بأنبياء.
وقد أرسل الله تعالى الملائكةَ لمريم حيث يقول: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [آل عمران: 42، 43]، ثم يقول تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 45، 46]، ولم تكن مريم نبيَّةً وإنما كانت امرأة صالحة صدِّيقة من القانتين.
وفي ميلادِ موسى عليه السلام وبيان الجوِّ الذي وُلد فيه وما كان من طغيان فرعون وإذلاله لبني إسرائيل والإيحاء إلى أمِّ موسى بإلقائه في اليم مع الوعد بردِّه إليها، يقول الله عز وجل: ﴿ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 3 - 7].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|