أبو بكر الصديق:
لَمَّا بايَع الناسُ أبا بكرٍ - رضِي الله عنه - قام فألقى خِطابًا موجزًا بليغًا مُحكَمًا، فيه بيانٌ لما سيكون عليه أمرُ الدولة، قام فحَمِدَ الله وأثنى عليه بالذي هو أهلُه ثم قال:
"أمَّا بعدُ، أيها الناس، فإنِّي قد وُلِّيتُ عليكم ولستُ بخيركم، فإنْ أحسنتُ فأعينوني، وإنْ أسأتُ فقَوِّموني.
الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضَّعيف فيكم قويٌّ عندي حتى أرجع عليه حقَّه - إن شاء الله - والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخُذ الحقَّ منه - إنْ شاء الله - لا يدع قومٌ الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذلِّ، ولا تشيعُ الفاحشة في قومٍ إلا عمَّهم بالبلاء، أطيعُوني ما أطعتُ الله ورسولَه فيكم، فإذا عصيتُ الله ورسولَه، فلا طاعةَ لي عليكم، قُوموا إلى صَلاتكم يرحَمْكم الله.
قال ابن كثير في "
البداية والنهاية": وهذا إسنادٌ صحيح[1].
1- في هذا الخطاب الرائع تواضُعٌ سامٍ يُعلِن فيه الخليفةُ أبو بكر - رضِي الله عنه - أنَّه ليس خيرَ المسلمين، وهذا تواضعٌ سامٍ؛ حيث يعرف الجميع أنَّه كان أفضلَ المسلمين، وقد أمَر رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنْ يؤمَّ المسلمين في الصلاة في مرض موته، وعندما اقتُرِح عليه اسمٌ آخَر أبى وقال: ((مُروا أبا بكر فليُصلِّ بالناس))، قال ذلك مرَّات، وفي ذلك إشارةٌ إلى أنَّه خيرُ الناس وأجدرُهم بأنْ يَؤُمَّهم، وهذه شهادةٌ ثمينة.
وعن جُبَير بن مُطعِم قال: أتت امرأةٌ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأمَرَها أنْ تَرجِع إليه، قالت: أرأيتَ إنْ جئتُ ولم أجدْك - كأنها: تعني الموت - قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((إنْ لم تجديني فأتي أبا بكرٍ))؛ رواه البخاري برقم 3659، ومسلم برقم 2386.
2- وفي هذا الخِطابِ يَطلُب من المسلمين أنْ يُراقِبوه: فإنْ أحسَنَ فإنَّه يَطلُب منهم المعونة، وإنْ أساء - وحاشاه أنْ يُسِيء - فإنَّه يطلُب أنْ يُقوِّموه! الله أكبر! الخليفة يطلُب من الناس أنْ يُقوِّموه إنْ أساء، هذا مستوى رفيعٌ من الحكم لم يكن موجودًا في ذاك الزَّمان لا في بلاد العرب ولا في غيرها من البلدان، إنَّ لسان حال كثيرٍ من الحكَّام ما قاله الشاعر متهكمًا:
يَا قَوْمُ لا تَتَكَلَّمُوا
إِنَّ الكَلامَ مُحَرَّمُ
نَامُوا وَلا تَسْتَيْقِظُوا
مَا فَازَ إِلاَّ النُّوَّمُ
وَتَأَخَّرُوا عَنْ كُلِّ مَا
يَقْضِي بِأَنْ تَتَقَدَّمُوا
أَمَّا السِّيَاسَةَ فَاتْرُكُوا
أَبَدًا وَإِلاَّ تَنْدَمُوا
وَإِذَا أَفَضْتُمْ فِي المُبَا
حِ مِنَ الحَدِيثِ فَجَمْجِمُوا
وَالعَدْلَ لا تَتَوَسَّمُوا
وَالظُّلْمَ لا تَتَجَهَّمُوا
مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَعِي
شَ اليَوْمَ وَهْوَ مُكَرَّمُ
فَلْيُمْسِ لا سَمْعٌ وَلا
بَصَرٌ لَدَيْهِ وَلا فَمُ
لا يَسْتَحِقُّ كَرَامَةً
إِلاَّ الأَصَمُّ الأَبْكَمُ
وَإِذَا أُهِنْتُمْ فَاشْكُرُوا
وَإِذَا لُطِمْتُمْ فَابْسِمُوا[2]
3- وذكر الخليفة العظيم - رضي الله عنه - أنَّ سياسة الدولة قائمةٌ على الصدق؛ لأنَّ الصدق أمانةٌ، والكذب خيانة.
ونحن نرى اليوم في عددٍ من البلاد أنَّ إعلام الدولة قائمٌ على الكذب، إنهم يُسمُّون الهزيمة انتصارًا، والظُّلم عدلاً، والتأخُّر تقدمًا! ويذكر في قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالحديث الصحيح الذي يقول فيه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ثلاثةٌ لا ينظُر الله إليهم ولا يُزكِّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ.. ومنهم: ملك كذَّاب)).
4- وذكر - رضي الله عنه - أنَّ مهمَّة الدولة إيصالُ الحقوق إلى أصحابها، فليس هناك أحدٌ فوقَ النظام، فالقويُّ ضعيفٌ عند الخليفة حتى يَأخُذ الحقَّ منه، والضعيف عنده قويٌّ حتى يأخُذ الحقَّ له.
إنَّ هذا البيان سبَقَ عصرَه بقُرون، إنَّ الناسَ اليوم لم يَصِلُوا إلى هذا المستوى.
5- ثم دعا الخليفةُ العظيم إلى الجهاد، وبيَّن للناس أنَّ عاقبةَ ترْك الجهاد هي الذلُّ والهوان.
6- وحذَّر من شُيوع الفاحشة، وبيَّن لهم أنَّ عاقبةَ ذلك عُموم البَلاء على الأمَّة.
7- وقرَّر للناس أنَّ طاعته مشروطةٌ بأنْ يكون هو مُطِيعًا لله ورسوله، فإنْ عصَى اللهَ ورسولَه فلا طاعةَ له عليهم.