التقديرات الإلهية وكتابة الأعمال
الإيمان بكتابة المقادير:
مراتب التقدير (مراتب الكتابة) خمسة وهي:
1- التقدير الشامل لجميع المخلوقات (أو التقدير الازلي أو التقدير العام أو الكتابة الأولى):
وهو تقدير الرب لجميع الكائنات؛ أو هي الكتابة الأولى: وهي أوَّلُهَا وأقدمها وأعظمها كِتَابَةُ الله عز وجل مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة في اللوح المحفوظ، وهذه هي الكتابة التي كانت قبل الخلق، وهذه الكتابة لا تتبدل ولا تتغير، رُفعت الأقلام وجفَّتْ الصحف. فيجد العبد ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ من خير أو شر. قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحج: 70].
وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه واله وسلم قال: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء) [1].
وقال صلى الله عليه واله وسلم: (يا غلام، إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك بشيء إلا قد كتبه الله عليك جفت الأقلام ورفعت الصحف ). [2]
وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي جِنَازَةٍ فَأَخَذَ عُودًا فَجَعَلَ ينكتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ فقَالَ: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ) فقَال رَجُلٌ: أَلَا نَتَّكِلُ؟ فقَالَ: (اعْمَلُوا فكلٌّ مُيَسَّرٌ) ثُمَّ قَرَأَ: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى ﴾ [الليل: 5 - 10][3].
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ شَابٌّ وَأَنَا أَخَافُ عَلَى نَفْسِي الْعَنَتَ وَلَا أَجِدُ مَا أَتَزَوَّجُ بِهِ النِّسَاءَ كأَنَّهُ يَسْتَأْذِنُهُ فِي الِاخْتِصَاءِ قَالَ: فَسَكَتَ عَنِّي ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ فَسَكَتَ عَنِّي ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ فَسَكَتَ عَنِّي ثُمَّ قُلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ فَاخْتَصِ على ذَلِك أَو ذَر"[4].
وقَالَ سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا عَنْ أَمْرِنَا كَأَنَّا نَنْظُرُ إِلَيْهِ أَبِمَا جَرَتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَثَبَتَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ أَوْ بِمَا يُسْتَأْنَفُ؟ قَالَ: (لَا بَلْ بِمَا جَرَتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَثَبَتَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ) قَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ إِذًا؟ قَالَ: (اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ)، قَالَ سُرَاقَةُ: فَلَا أَكُونُ أَبَدًا أَشَدَّ اجْتِهَادًا فِي الْعَمَلِ مِنِّي الآن) [5].
2- التقدير يوم أخذ الميثاق (أو التقدير العمري يوم الميثاق، أو التقدير الميثاقي، أو التقدير البشري [6]، أو كتابة الميثاق):
وهو التقدير الذي أخذ الله فيه الميثاق على جميع البشر بأنه ربهم، وأشهدهم على أنفسهم بذلك، والذي قدر الله فيه أهل السعادة وأهل الشقاوة، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 172].
وهذه الكتابة الثانية لكِتَابَة مقادير الخلق من حيث الشّقاوة والسعادة، والخلق هم خاصةَ المكلفين.
وهذه التي تأتي فيها أحاديث الميثاق وأنَّ الله عز وجل استخرج ذرية آدم من صلبه فنثرهم أمامه كهيئة الذَّر وأخذ عليه ألا يشركوا به شيئاً، وقَبَضَ قبضة إلى الجنة وقبضة إلى النار وكتب أهل الجنة وكتب أهل النار، ونحو ذلك مما جاء في السّنة من بيان ذلك. وهذا تقديرٌ بَعْدَ الأول، وهو قبل أن يُخْلَقَ جِنْسُ المكلفين أي من الإنسان، لمَّا خلق الله عز وجل آدم عليه السلام.
فعن هشام بن حكيم أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه واله وسلم فقال: أَتُبْدَأُ الأعمال أم قد قُضِيَ القضاء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: (إن الله أخذ ذرية آدم من ظهورهم، ثم أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه فقال: هؤلاء في الجنة، وهؤلاء في النار؛ فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار)[7].
قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: (إن الله عز وجل خلق آدم، ثم أخذ الخلق من ظهره وقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وهؤلاء إلى النار ولا أبالي، فقال قائل: يا رسول الله فعلى ماذا نعمل؟ قال: على مواقع القدر)[8].
3- التقدير العُمُري (التقدير العمري الذي عند أول تخليق النطفة أو الكتابة العمرية):
وهو تقدير كل ما يجري على العبد في حياته إلى نهاية أجله، وكتابةُ شقاوته، أو سعادته، في بطن أمه في أطوار الحمل الأولى، وقد دل على ذلك حديث الصادق المصدوق في الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعاً: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل المَلَك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيٌّ أو سعيدٌ)[9].
وهذه الكتابة العُمرية هي تفصيلٌ لما في اللوح المحفوظ، لأنَّ الذي في اللوح المحفوظ شامل لكل المخلوقات، وهذا مُتعلِقٌ بهذا المخلوق المعين وحده.
4- التقدير السنوي (التقدير الحولي أو الكتابة السنوية أو الحولية):
قال تعالى: ﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ [الدخان: 4]، فإنه يكتب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير، والشر، والأرزاق. وقوله تعالى: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 4-5].
قيل: يكتب فيها (أي هذه الليلة) ما يحدث في السنة من موت وحياة، وعز وذل، ورزق ومطر، حتى الحجاج يُقال: يحج فلان، ويحج فلان. رُوي هذا عن ابن عمر، وابن عباس، وكذا الحسن البصري، وسعيد ابن جبير[10].
وهذه تُكْتَبْ فيها المقادير في تلك السَّنَةْ، من السَّنَةْ إلى السَّنَةْ، أي أنَّ الله تعالى يوحي إلى ملائكته بأن يكتبوا أشياء مما في اللوح المحفوظ فتكون بأيديهم مما سيحصل للناس.
5 - التقدير اليومي (الكتابة اليومية):
وهو سوق المقادير إلى المواقيت التي قدرت لها، وهو التطبيق العملي والواقعي للكتابة السنوية. لقوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29].
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: ﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29] قَالَ:
(مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا وَيُفَرِّجَ كَرْبًا ويرفع قوماً ويضع آخرين)[11].
وقيل في تفسيرها: شأنه أن يُعِزَّ ويُذِل، ويرفع ويخفض، ويُعطي ويمنع، ويُغني ويُفقر، ويُضحِكَ ويُبكي، ويُميت ويُحيي، إلى غير ذلك.[12]
قال الشيخ السعدي:
﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ يغني فقيراً، ويجبر كسيراً، ويعطي قوماً، ويمنع آخرين، ويميت ويحيي، ويرفع ويخفض، لا يشغله شأن عن شأن، ولا تغلطه المسائل، ولا يبرمه إلحاح الملحين، ولا طول مسألة السائلين، فسبحان الكريم الوهاب، الذي عمت مواهبه أهل الأرض والسماوات، وعم لطفه جميع الخلق في كل الآنات واللحظات، وتعالى الذي لا يمنعه من الإعطاء معصية العاصين، ولا استغناء الفقراء الجاهلين به وبكرمه، وهذه الشؤون التي أخبر أنه تعالى كل يوم هو في شأن، هي تقاديره وتدابيره التي قدرها في الأزل وقضاها، لا يزال تعالى يمضيها وينفذها في أوقاتها التي اقتضته حكمته، وهي أحكامه الدينية التي هي الأمر والنهي، والقدرية التي يجريها على عباده مدة مقامهم في هذه الدار، حتى إذا تمت هذه الخليقة وأفناهم الله تعالى وأراد تعالى أن ينفذ فيهم أحكام الجزاء، ويريهم من عدله وفضله وكثرة إحسانه، ما به يعرفونه ويوحدونه، نقل المكلفين من دار الابتلاء والامتحان إلى دار الحيوان. وفرغ حينئذ لتنفيذ هذه الأحكام، التي جاء وقتها، وهو المراد بقوله: ﴿ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [الرحمن: 31، 32] أي: سنفرغ لحسابكم ومجازاتكم بأعمالكم التي عملتموها في دار الدنيا). ا.هـ [13].
ثم هذا التقدير اليومي تفصيل من التقدير الحولي والحولي تفصيل من التقدير العمري عند تخليق النطفة، والعمري تفصيل من التقدير العمري الأول يوم الميثاق، وهو تفصيل من التقدير الأزلي الذي خطه القلم في الإمام المبين؛ والإمام المبين هو من علم الله عز وجل، وكذلك منتهى المقادير في آخريتها إلى علم الله عز وجل، فانتهت الأوائل إلى أوليته، وانتهت الأواخر إلى آخريته، قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ﴾ [النجم: 42][14].
وهذه الكتابات الخمسة كلها قبل وقوع العمل من الانسان، أما الكتابة بعد العمل فهي التي تكتبها الملائكة بعد وقوع العمل من الانسان، قال الله عزّ وجل: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 16-18]، وقال تعالى ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الانفطار: 10-12].
فالملائكة الحفظة يكتبون ما يقوم به الإنسان من قول، وما يقوم به من فعل؛ سواء كان ظاهراً؛ كأقوال اللسان وأعمال الجوارح، أو باطناً حتى ما في القلب مما يعتقده الإنسان، فإنه يكتب عليه[15].
وفيما يلي خلاصة مراتب التقدير:
التقدير الشامل
التقدير الميثاقي
التقدير العمري
التقدير الحولي
التقدير اليومي
الكتابة الأولى
كتابة الميثاق
الكتابة العمرية
الكتابة الحولية
الكتابة اليومية
عام وشامل لكل المخلوقات
خاص بالمكلفين من البشر
خاص بكل انسان
( معين )
يكتب ما سيحصل للناس في تلك السنة
يكتب ما يحصل للناس في ذلك اليوم
قبل الخلق بخمسين الف سنة
قبل خلق جنس المكلفين من الانس لما خُلق آدم
في بطن امه في اطوار الحمل الأولى
في ليلة القدر من كل سنة
في كل يوم
لا يعلم به ملك مقرب أو نبي مرسل
يعلم به الملائكة
عام شامل
تفصيل من التقدير الازلي
تفصيل للتقدير الميثاقي
تفصيل للتقدير العمري
تفصيل للتقدير الحولي
من القدر المثبت الذي لا محو فيه البته
من القدر المقيد الذي فيه المحو الاثبات والتغيير
والأسباب مؤثرة فيه
مظهر لقدرة الله تعالى وحكمته
من التقدير الابتلائي المظهر لحكمة الله تعالى
هو ما في ام الكتاب
( اللوح المحفوظ )
هو ما في كتب الملائكة
( تتولاها الملائكة المكرمون )
كتابة الأعمال:
مما تقدم فإن كتابة الأعمال (وهي المرتبة الثانية من مراتب القدر)؛ وهذه الكتابة تسمى الكتابة السابقة، أما الكتابة اللاحقة فهي الكتابة التي تكتبها الملائكة الكرام، والفرق بينهما هو:
الكتابة السابقة
الكتابة اللاحقة
قال تعالى: ﴿ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ ﴾ [يس: 12]
قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الانفطار: 10-12]
مكتوبة في اللوح المحفوظ
تكتبها الملائكة الكرام بعد عمل الانسان
تكون قبل العمل
تكون بعد العمل
لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب
يترتب عليها ثواب وعقاب
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|